بقلم: نيفين مسعد
لم ينم شارع الحبيب بورقيبة في هذه الليلة بل لم تنم تونس كلها، فالليلة هي ليلة إعلان فوز قيس سعيد برئاسة البلاد. لا عليك إن لم تسمح ظروفك بالانتقال لتونس ومعايشة أجواء الاحتفال فأجواء الاحتفال تأتي إليك حيثما كنت وتصنع منك ومني ومن آخرين دائرة كبيرة حول هذا الشباب الذي يغني ويرقص، إنها عدوى الفرح التي لا تحتاج إلى مخالطة ولا ملامسة.. ما تحتاج إليه مجرد مسام مفتوحة وكلنا استعداد للانفتاح بل للتفتح .. التفتح كلمة تفيد الإزهار ببطء مدروس بعكس كلمة الانفتاح. في منتصف الحلقة يعتلي شاب كتف زميله ويمسك في يديه قفصاً خشبياً لا يحوي شيئا لكن يرفرف فوقه علم تونس الأحمر، القفص خال لأن العصفور طار من محبسه إلى الفضاء الواسع، أما لحظة طيرانه فمُختَلَف عليها، ستجد من يقول إن العصفور طار في اللحظة التي صاح فيها المحامي التونسي عبد الناصر العويني صيحته الشهيرة "بن علي هرب .. بن علي هرب". وستجد من يقول إن العصفور طار في اللحظة التي اصطحبت فيها ثلة من طلاب الجامعة أستاذهم قيس سعيد من مدرج الجامعة إلى قصر قرطاچ وحققوا حلمه وحلمهم.. يقول الكينج محمد منير في واحدة من أجمل أغانيه " لو بطّلنا نحلم نموت" . أما عبد الناصر العويني نفسه فماذا يقول ؟ ربما يقول إن العصفور مازال في القفص.. وإن بن علي هرب صحيح لكن العصفور نفسه لم يهرب.. حاول وفشل، سيقول ذلك عبد الناصر العويني لأنه تعرض للتنكيل والمطاردة بل والسرقة بعد ثورة الياسمين وكان يظن أن زمن التنمّر ولّى وفات، فإن أنت اندهشت من إجابته وسألته: أين هو هذا العصفور وقفصه خال؟ فإنه سوف يجيبك: هو موجود لكن هناك من لا يريد رؤيته ويفضل أن يعيش في وهم أن العصفور تحرر وطار.
***
أن تتعدد زوايا النظر لقصة العصفور والقفص، فيقول البعض إنه طار ويقول البعض الآخر بل مازال العصفور حبيسا، فإن هذا يعني أن أحدا لم يعد يحتكر البوح والحكي عن قصة الحرية في تونس، وأن شوارع تونس: العاصمة والبلد اتسعت للجميع واستوعبت اختلافاتهم وإشاعاتهم وحروب كلامهم، وأن تونس صارت مزيانة. شتان الفرق بين أول زيارة لي إلى تونس وبين هذا المشهد السيريالي الذي يطل عليّ/ علينا عبر الفضائيات التونسية على الهواء مباشرة من شارع الحبيب بورقيبة. أول مرة مشيت فيها لتونس، كما يقولون، كانت في منتصف التسعينيات لحضور ندوة عن المرأة، نحن نساء العالم العربي نقف وراء النساء التونسيات ونتركهن يتكلمن باسمنا.. ندعهن يرفعن السقف أعلى وأعلى، وكل ارتفاع للسقف فيه براح وحرية وفيه أيضا مغامرة. في زيارتي الأولى بدت تونس هادئة لكن باردة، والبرودة هنا تشير إلى الوضع العام لا إلى حالة الطقس رغم أننا كنّا في شهر نوڤمبر، برودة الطقس مقدور عليها أما برودة الحياة فلا تُذهبُها ألف مدفئة. رأيتُ السياح في سيدي بوسعيد وعند باب فرنسا ولاقينا معا التاريخ عند جامع الزيتونة، مررتُ بناس يقصدون أعمالهم من الصباح الباكر وحتى الزوال أفواجا تلو أفواج، تناهت لسمعي نميمة سياسية عن آل طرابلسي والجارة ليبيا وحركة النهضة وسعر اليورو في السوق السوداء وكانت السوق الوحيدة لتبديل العملة، لكني كنت أشعر بأن هناك شيئا ناقصا، شيء غير معلوم لكن غيابه محسوس، ولأجل هذا الشعور اخترعوا تعبير "عجلة الحياة تدور"، وهو تعبير فذ بالمناسبة لأن فيه معنى غياب الروح. في المرتين التاليتين اللتين زرت فيهما تونس لم يبارحني هذا الشعور.
***
أخذني المحتفلون في شارع الحبيب بورقيبة من ذكرياتي، ونفثوا فيّ هذه المرة نَفَساً عميقاً حرا كما هؤلاء الشباب أحرار، كان النَفَسُ مشبعا بأريج الياسمين، أما كيف تسلل إليّ أريج الياسمين قادما من الضفة الأخرى للمتوسط فهذا بدّه شرح. أتى الأريج محمولاً على أمواج البحر الوادعة وعالقا بأشرعة مراكب الصيد.. وكأن كل ما يأتي من أرض تونس الخضراء قد طاله الأريج. كان هذا البلد كمثل القوقعة لا يعرف عنه المشارقة شيئا ثم انقلب حاله. اللهجة التونسية التي لم تكن تألفها الأذن سرعان ما تَطَبّعنا معها ودخلت إلى لهجاتنا المحلية كلمات يعايشك وزوز وكيف كيف وبرشا و باهي وصافي ولاباس وثّم وما ثمّاش، وتدفقت القوة الناعمة التونسية بسلاسة وبمعدل أكبر عبر كل القنوات الممكنة، أصلا لم يكن أحد من قبل يبحث عن تردد القنوات التونسية فلم يكن فيها شيء يُري. الفنانون التوانسة صاروا جزءا مهما من الظاهرة الفنية العربية وبعد أن كان لدينا قبل ٢٠١٠ لطيفان اثنان هما لطفي بوشناق ولطيفة امتلأت الساحات الفنية بلطائف أخرى كثيرة في الطَرَب والدراما معا. المنتجات التونسية بدا مذاقها جديدا علينا وهو ليس بجديد من أول زيت الزيتون وحتى دجلة نور مرورا بالتونة والهريسة والكسكس. قلائد الفضة التونسية اتخذت طريقها إلى أعناق النساء مع تكرار التردد على السوق القديمة بأزقتها وزخارفها وزحامها. بعض هذه القلائد يحمل البصمة الأمازيغية بألوانها المفرحة التي تمزج الأصفر الفاقع بالأزرق الداكن، و الكل تعايش بسلام مع حلّي البهية عزة فهمي.. يسمّي التوانسة صناعتهم وعملهم "خدمة " ويطلقون عبارة "باش نخدموا أو نوّلي نخدموا أو العِباد يخدموا" على كل ما يفعلون فيتجاوزون الفرز العنصري للناس إلى سادة وخدم ويصبح الكل خادما للقمة العيش وساعيا وراء الرزق .. تونس مزيانة.
***
إن جديد تونس ليس هو اختيار قيس سعيد رئيسا للبلاد، فمن التوانسة من لم يختره أصلا ومنهم من اختاره لأنه لم يجد غيره، لكن جديد تونس هو في هذه الحيوية التي تغير وتبدّل وتقاوم وتتحدي فما عادت الحياة تحتاج إلي عجلة "تديرها".