بقلم - نيفين مسعد
تمثل العقوبات الأمريكية على إيران اختبارا لقدرة الولايات المتحدة على فرض هيمنتها على النظام الدولى، وهذا الاختبار ليس الأول من نوعه على أى حال، فقد سبقته اختبارات أخرى، حاولت الولايات المتحدة من خلالها أن تتبين رد فعل النظام الدولى على استخفافها بقرارات الأمم المتحدة وعلى تحللها من التزاماتها الدولية. فى مواجهة هذه الاختبارات المتكررة كانت دول عديدة تقاوم تكريس نمط الأحادية القطبية وتتصدى لسياسات الإدارة الأمريكية ذات الصِّلة، فلقد قوبل قرار نقل السفارة الأمريكية للقدس بمعارضة كاسحة داخل مجلس الأمن وعارضته 128 دولة داخل الجمعية العامة للأمم المتحدة، ولم تتبع الخطوة الأمريكية حتى كتابة هذا المقال سوى جواتيمالا بينما عَدَلَت باراجواى عن نقل سفارتها، وحتى لونفذت البرازيل تعهدها بنقل سفارتها للقدس فسوف يظل حصاد الخطوة الأمريكية بالغ الهزال. وفى مقابل انسحاب الولايات المتحدة من اتفاقية پاريس للمناخ فإن الدول الأطراف فيها تمسكت بها، صحيح أن الانسحاب الأمريكى يؤثر فى فاعلية الاتفاقية بالنظر إلى أن الولايات المتحدة فى طليعة الدول الملوثة للبيئة، لكن الرسالة التى تبعث بها الدول الأطراف أن الاتفاقية باقية دون الولايات المتحدة. وثمة محاولات من الاتحاد الأوروبى لمعالجة الآثار السلبية لتوقف المساعدات الأمريكية لمنظمة الأونروا، وهناك من يعتبر أن خروج الولايات المتحدة من معاهدة ستارت للصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى سيخدم روسيا، لأنه سيحررها من قيود الاتفاقية، بل إن هناك من يرى أن روسيا هى التى استدرجت الولايات المتحدة للخروج رسميا من المعاهدة.
نأتى لانسحاب الولايات المتحدة من اتفاق 5+1 ومن ثم استئناف العقوبات الأمريكية على إيران، فلقد حاولت بقية الأطراف إقناع الرئيس دونالد ترامب بعدم الانسحاب من الاتفاق، وحين فشلت سعت لإنقاذ الاتفاق من جانبها ولم تفوّت فرصة للدفاع عن استمراريته إلا واغتنمتها. هذا لا ينفى أن تلك الأطراف طرحت فكرة التفاوض مع إيران بشأن اتفاق تكميلى حول برنامجها الصاروخى ونفوذها الإقليمى، وهذا كان مطلبا معلنا للرئيس الأمريكى، لكنها لم تقدم هذا الطرح كبديل للاتفاق النووى ولا طلبت إلغاءه. وقبيل فرض الحزمة الثانية من العقوبات الأمريكية التى دخلت حيّز التنفيذ فعلا فى 5 نوفمبر الحالى، أعلن الاتحاد الأوروبى أنه يعمل على إنشاء آلية قانونية جوهرها هو مبادلة النفط الإيرانى باحتياجات إيران من البضائع والسلع الأساسية، كما أعلنت روسيا ودول أخرى أنها لن تلتزم بتطبيق العقوبات، لكن المفاجأة جاءت حين صرح وزير الخارجية الأمريكية مايك بومبيو أن هناك ثمانى دول سيتم استثناؤها لفترة محددة من الالتزام بالعقوبات على إيران، لأن هذه الدول بدأت فى خفض وارداتها من النفط الإيرانى بالتدريج ولأنها تتعاون مع الولايات المتحدة فى مجال مكافحة الإرهاب. قبل أن يتكلم بومبيو لم يسبق طرح فكرة الاستثناءات الأمريكية هذه، ومع أن الفكرة توحى وكأن الولايات المتحدة هى التى بيدها منح تصاريح التجارة الدولية لمن تريد وحجبها عمن تريد، لكن على الجانب الآخر فإنها تظهر صعوبة إلزام كل الأطراف الدولية بسياسة العقوبات، وأن هدف تصفير الصادرات النفطية الإيرانية الذى تبناه الرئيس ترامب لن يتحقق مستقبلا كما لم يتحقق من قبل، لأنه طالما يوجد طلب على النفط فسيتم التفكير فى سبل الحصول عليه والالتفاف على العقوبات.
إن قضية العقوبات الأمريكية على إيران هى حلقة جديدة من حلقات التنافس على تشكيل النظام الدولى، وهى بذلك تتجاوز العلاقة المباشرة بين الولايات المتحدة وإيران لتتعلق بتوازنات القوة العالمية نفسها. سوف يكون للعقوبات الأمريكية بالتأكيد آثارها الانكماشية على الاقتصاد الإيرانى، فمجرد تقليص حجم الصادرات النفطية الإيرانية وخروج عدد من الشركات العالمية من السوق الإيرانية معناه تراجع حصيلة إيران من الدولار ومزيد من خفض قيمة الريال فى مواجهته، كما أن فصل المصارف الإيرانية عن النظام المالى العالمى سيضع عراقيل لا أول لها ولا آخر أمام تعاملاتها الخارجية، هذا كله صحيح، وإذا تذكرنا تدهور الأوضاع الاقتصادية الإيرانية حتى قبل سريان أول حزمة من العقوبات وانتشار الاحتجاجات الشعبية المطلبية فسوف نتبين خطورة الموقف الاقتصادى بالنسبة لإيران. لكن الشيء الصحيح أيضا أن هناك قوى دولية ترفض أن تُملى الولايات المتحدة إرادتها على العالم حتى لو كانت هذه القوى لها ملاحظات بالغة السلبية على السلوك التوسعى لإيران وعلى تدخلاتها التى لا تنتهى فى الشئون الداخلية لدول الجوار، فهذا غير ذاك. ولنتذكر موجة الرفض الأوروبى المماثلة لقانون داماتو الذى أصدره الكونجرس الأمريكى عام 1995 وكان يقضى معاقبة المتعاملين مع إيران وليبيا فى قطاعّى النفط والغاز، ثم جاء انكشاف أمر البرنامج النووى الإيرانى وعندها رأت أوروبا أن لها مصلحة فى معاقبة إيران بغض النظر عن التشريع الأمريكى. فإلى أين تتجه دفة هذا التنافس على تشكيل هيكل النظام الدولى والحفاظ على تعدديته؟ وإلى أى مدى تسهم سياسة العقوبات الأمريكية فى توجيه هذه الدفة؟ ننتظر لنرى.
نقلا عن الأهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع