بقلم - نيفين مسعد
تواصل الجدل منذ عدة أشهر حول مصير القوات الأمريكية فى العراق، وفى هذا الإطار قام عدد من النواب بإعداد مشروع قانون لعرضه على البرلمان يتضمن بنودا أهمها إلغاء الاتفاقية الأمنية الموقعة بين العراق والولايات المتحدة فى عام 2008 وكذلك إلغاء المادة الثالثة من اتفاقية الإطار الإستراتيچى بين الدولتين. وللتذكرة فإن المادة الثالثة هذه تنص على أن القوات الأمريكية المنسحبة بمقتضى الاتفاقية الأمنية سوف تتمركز فى المنشآت والمساحات المتفق عليها من خلال اللجنة الأمريكية - العراقية المشتركة لتنسيق العمليات العسكرية. وفى مقابل هذا التحرك ذكر محمد الحلبوسى رئيس مجلس النواب العراقى فى حوار له مع جريدة الشرق الأوسط أن الاقتراحات النيابية بسحب القوات الأمريكية من العراق قد طُوّيَت نهائيا وأن رؤساء الجمهورية والحكومة والبرلمان وكذلك رؤساء الكتل السياسية والحزبية متوافقون على ذلك، ثم أضاف استطرادا مثيرا هو أن وجود القوات الأمريكية ضمانة للعراق وغطاء سياسى له فى مواجهة التدخلات الأجنبية وكأن الوجود العسكرى الأمريكى لا يمثل تدخلا أجنبيا فى شئون العراق.
الجدل حول الدور الأمريكى فى العراق تعود جذوره إلى تاريخ سقوط بغداد فى 9 أبريل عام 2003، فعلى حين أطلق البعض على هذا الدور وصف الوجود الأمريكى تعامل معه البعض الآخر باعتباره احتلالا، وارتبط اختلاف توصيف الدور الأمريكى بأن الأطراف العراقية وجدت نفسها دائما أمام خيارات صعبة. ففى مرحلة معينة كان الخيار هو بين استمرار الحكم الاستبدادى لصدام حسين والديمقراطية الوهمية التى وعد بها چورچ بوش الابن، وفى مرحلة أخرى كان الخيار هو بين الاستسلام لتنظيم داعش الإرهابى والتخلص منه على يد التحالف الدولى الذى تتزعمه الولايات المتحدة، والآن فإن الخيار المطروح هو بين نفوذ كل من الولايات المتحدة وإيران فى العراق. وبطبيعة الحال فإن الخيارات السابقة ليست بهذا الوضوح فقد نجد من يرفض التدخل الأجنبى بالمطلق وأيا كان مصدره، كما يجب أن نلاحظ أن القوى العراقية بدّلت مواقفها تجاه القوات الأمريكية من مرحلة لأخرى، وذلك ربما باستثناء موقف التيار الصدرى الذى رغم علاقة العداء والدم بينه وبين صدام حسين فإنه تعامل مع القوات الأمريكية من اللحظة الأولى بوصفها قوات احتلال، وعلى خلفية هذا التكييف للدور الأمريكى تأسس جيش المهدى فى عام 2004.
إلى أى مدى يمكن أن نصدق أن صفحة المطالبة العراقية بالانسحاب الأمريكى قد طُوِيَت؟ حدّثنى مطّلع على أوضاع العراق من الداخل قائلا إنه لا أحد فى العراق (عدا التيار الصدري) جاد فى طرح مسألة الانسحاب الأمريكى لأسباب مختلفة، منها الخوف من تجدد ظهور داعش؛ لأن هزيمة داعش شيء، واجتثاثه من جذوره شيء آخر، ومنها الحاجة إلى تدريب القوات المسلحة العراقية، والأهم أن العراق فى هذه المرحلة ليس فى وارد الدخول فى مواجهة سياسية مع الولايات المتحدة. ومعنى هذا الكلام أن معظم ما يثار بخصوص الانسحاب الأمريكى هو نوع من ضغط القوى العراقية القريبة من إيران بالأساس، أى أنه يدخل فى إطار إدارة الصراع الإيرانى مع الولايات المتحدة وهو صراع ممتد فى عدة ساحات عربية لكن بؤرته تختلف من وقت لآخر، وبؤرته الحالية فى العراق. يزور الرئيس الأمريكى قاعدة عين الأسد ويعلن أنه سيراقب إيران من العراق، فيرد عليه وزير الخارجية الإيرانية فى زيارة تالية مباشرة للعراق بأن أمريكا ستترك المنطقة ويبقى الإيرانيون؛ لأنهم جزء منها. و لا يخفى أن نقطة الزج بالعراق فى الصراع الأمريكى - الإيرانى تحديدا هى التى تفسر تصعيد الإلحاح على الانسحاب الأمريكى من العراق، فمثل هذا الصراع يكلف العراق غاليا، ولا ننسى أن إعفاء العراق من الالتزام بالعقوبات على إيران يوشك على الانتهاء، ومعلوم أن العراق يعتمد على إيران كمصدر رئيسى للكهرباء وللغاز بدرجة تالية، وأن نقص الكهرباء كان السبب الأساسى وراء موجة الاحتجاجات التى عمت مدينة البصرة خلال العامين الماضيين. وهكذا فبينما يضيّق دونالد ترامب الخناق على إيران فى العراق بعد سوريا ويجدد استثناء العراق من العقوبات الإيرانية بالقطارة، فإن المرشد الإيرانى على خامنئى يحث رئيس الوزراء عادل عبد المهدى على سرعة إخراج القوات الأمريكية من العراق وكأنه ليس لإيران يد ثقيلة على مفاصل الدولة العراقية ولا لتركيا قوات فى شمال العراق.
لكن إذا كانت لا توجد إرادة حقيقية فى الوقت الحالى لإخراج القوات الأمريكية من العراق فيجب أن يكون هناك وعى بأن هذا الوضع لا يمكن أن يستمر، وأن الأصل فيه هو القرار الكارثى لبول بريمر بحل الجيش العراقى، وبالتالى يجب الاشتغال على دعم الجيش ورفع قدراته القتالية، هذا من جهة وحصر السلاح بيده من جهة ثانية وهو أمر بدأ الالتفات إليه والإلحاح عليه من جهات مختلفة منها السيد على السيستانى نفسه. وإذا كانت إيران هى المورّد الأساسى للكهرباء أو لأى سلعة أخرى فإن هذا أيضا وضع يجب ألا يستمر؛ لأن الاعتماد ينشئ علاقة يكون المتحكم فيها هو الطرف الأقوى، وهاهو العراق ينفتح على محيطه العربى وبإمكانه أن يوظّف هذا الانفتاح من أجل تنويع مصادر وارداته، وقد كانت زيارة وزير الثقافة السعودى الأخيرة للعراق ممتازة وقد تلاها بتغريدة يشيد فيها بحسن استقبال نظيره العراقى وهو قريب من عصائب أهل الحق بعلاقتها المعروفة بإيران، وتلك إشارة يفهمها اللبيب.
نقلًا عن الاهرام
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع