على الرغم من اهتمام معظم وسائل الإعلام بالنقد اللاذع الذى أبداه وزير الخارجية الأمريكى مايك بومبيو للرئيس السابق أوباما فى خطابه بالقاهرة التى زارها أخيرا ضمن جولته الواسعة بالمنطقة, إلا أن ذلك ليس هو بيت القصيد, فكل ما قاله بهذا الخصوص لم يكن جديدا على إدارة الرئيس الحالى دونالد ترامب, الذى سبق وتجاوز فعلا لا قولا سياسة سلفه, وبالتالى فهذا الجانب لم يكن أكثر من كونه دعائيا أو ثانويا قياسا بالهدف الرئيسى الذى يحتل أولوية قصوى فى السياسة الأمريكية الراهنة وهو مواجهة إيران, والذى يستلزم تحقيق أكبر حشد دولى وإقليمى له, ومن أجله سيُعقد مؤتمر بولندا منتصف الشهر المقبل وبسببه أيضا جاءت جولة بومبيو المشار إليها, والتى روج خلالها لتشكيل تحالف عربى أمنى عسكرى من دول مجلس التعاون الخليجى الست ومصر والأردن يكون هدفه محاصرة طهران والوقوف ضد توسعها الإقليمى أى إنشاء كيان شبيه بحلف شمال الأطلنطى (الناتو) ولذلك أطلق عليه مجازا الناتو العربي. فهل هذا المقترح قابل للتحقق؟ وما هى القضايا التى يثيرها وتستحق التوقف عندها حتى لا يُصبح الأمر مجرد انعكاس لرغبة أمريكية قد لا تتوافق بالضرورة مع مقتضيات الواقع العربي؟ يمكن إيجاز بعض تلك القضايا فى الآتي:
أولا, إن الظروف التاريخية والسياسية التى تأسس فى إطارها حلف الناتو فى أوروبا بقيادة أمريكية أواخر الأربعينيات تختلف ولا شك عن مثيلاتها فى الشرق الأوسط بوضعه الحالي، فأغلب دوله تجتاز مراحل صعبة لإعادة بنائها, بعدما قوضت الحروب والصراعات الأهلية والإقليمية كياناتها, بعكس حال دول أوروبا القوية, أى باتت دولا ضعيفة ومسرحا لكل أنواع التدخلات الخارجية، إضافة إلى أن وحدة الهدف الذى اجتمع عليه الطرفان الأوروبى والأمريكى كان حاسما ولا لبس فيه، وهو مواجهة الاتحاد السوفيتى وحلف وارسو إبان الحرب الباردة فى زمن الاستقطاب الحاد بين المعسكرين الغربى والشرقى ونظام القطبية الثنائية، وقد يكون من الصعب مضاهاة خطر إيران كدولة بالتهديد الذى مثلته «الإمبراطورية» السوفيتية وقتئذ واستدعت تشكيل الناتو.
ثانيا، ليست جميع الدول المدعوة للدخول فى الحلف العربى المفترض على نفس الدرجة من العداء مع إيران أو حتى تتساوى علاقاتها بها، وإذا أخذنا الدول الخليجية كمثال سيتضح تلقائيا مدى التباين بينها فى هذه الزاوية تحديدا، فقطر التى تضم أكبر قاعدة جوية أمريكية فى الشرق الأوسط والداخلة فى خصومة مع دول الرباعية (السعودية ومصر والإمارات والبحرين) معروفة بانحيازها وتحالفها الوثيق مع إيران، وكذلك الحال وإن اختلفت الأسباب بالنسبة لسلطنة عُمان التى لم تنخرط فى أى صراع معها بل وكانت دوما إحدى قنوات الاتصال بينها وبين الدول المقاطعة رسميا لها وفى مقدمتها الدول الغربية ذاتها، والشيء نفسه ينطبق على الكويت، وليس هناك مؤشر على أن الدولتين لديهما دافع قوى للتخلى عن موقفهما الحيادى تجاهها، وربما هذا ما يفسر زيارة وزير الخارجية الأمريكى المفاجئة لعُمان رغم أنها لم تكن مدرجة فى جدول زيارته المعلن وإلغاء أخرى كانت مقررة بالفعل للكويت, إذ لا يمكن فهم الخطوتين إلا فى إطار ما قد يكون خلُص إليه بشأن موقفهما غير المرحب بالمبادرة التى حملها معه.
ثالثا، إن مسألة مواجهة إيران لا يمكن اختزالها فى الجانب الأمنى والعسكري, فهى تقتضى رؤية أشمل للتعامل مع نفوذها وأذرعها الممتدة فى أكثر من بلد عربى بدءا بنظام بشار فى سوريا إلى لبنان والعراق واليمن وصولا إلى حركتى حماس والجهاد الفلسطيني, علاوة على انفتاحها الحالى على تركيا والتى بدورها تسعى لتوثيق علاقتها بها, ومن ثم يصبح السؤال الجوهرى عن الكيفية التى سيتم بها إخراجها من جميع تلك المعادلات, وبالمنطق نفسه ولكن على المستوى الدولى ماذا سيكون رد فعل كل من روسيا والصين الداعمتين لها فى إطار صراعهما الضمنى مع الغرب حال تأسيس الحلف أو الناتو العربى خاصة إذا ما تعرض لمصالحهما المباشرة؟ فكلها حسابات معقدة وستخضع لكثير من المساومات والضغوط السياسية، وربما تعود بالمنطقة إلى سياسة المحاور ولكن بشكل صريح.
رابعا، ما يتعلق بأزمة المصداقية التى تعانيها إدارة ترامب، فكثير من التصريحات والمواقف والسياسات تبدو متناقضة بل وتتغير باستمرار بحيث يصعب أحيانا التنبؤ بها، يستوى فى ذلك أسلوب تعاملها مع حلفائها أو خصومها، وإحدى أهم المفارقات بهذا الخصوص هى تزامن دعوتها لمثل هذا الحلف العربى بهجومها غير المسبوق على الناتو الأصلى وشركائها الأوروبيين بحجة عدم الوفاء بالتزاماتهم فى زيادة ميزانيات الدفاع وحجم مساهمتهم المالية فى الحلف, والأكثر من ذلك هو تشكيك ترامب نفسه فى قدرة الناتو على مواجهة التحديات الأمنية على مستوى العالم, ما أدى من وجهة نظره إلى إخفاقه فى تسوية النزاعات.
خامسا, الضغوط الداخلية التى يتعرض لها الرئيس الأمريكى فى الوقت الحالى والتى قد تزيد من حجم الارتباك على مستوى سياسته الخارجية, فهناك لجنة تحقيق مولر فى قضية التدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية, وهناك أيضا فوز الديمقراطيين بالأغلبية فى مجلس النواب، ما سيُدخله فى خلافات متوقعة مع الكونجرس مع بداية الدورة التشريعية والواقع أن هذا العامل (أى خلافه مع الكونجرس) ستكون له تداعيات أكثر تعقيدا من تقلباته المزاجية، وهذا ما يجعل أى مبادرة أمريكية تُطرح حاليا مثيرة للقلق.
هذه القضايا جديرة بأن تؤخذ فى الاعتبار دون الانتقاص من أن فكرة إنشاء كيان عربى للأمن الجماعى هى إيجابية فى ذاتها, ولكنها مازالت تحتاج إلى ظروف مغايرة وإرادة جماعية موحدة إن توافرت
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع