كثير من المستشرقين يتحدثون عن الاستبداد الشرقى, باعتباره أمرا بديهيا لا غنى لأحد عنصريه عن الآخر وكأنهما متلازمان, وأن النزعة الاستبدادية تزداد فى المجتمعات الإسلامية, بحيث يصعب الفكاك منها, لكن الرئيس التركى رجب طيب أردوغان زعيم حزب العدالة والتنمية ذا الجذور الإخوانية, أراد أن يثبت للعالم عكس تلك المقولة, وأنه يشكل الاستثناء من القاعدة, باعتباره القادر, ليس فقط على إقامة نظام حكم إسلامى ديمقراطى, وإنما أن يُصبح نموذجا يُحتذى لكل الأنظمة الحاكمة فى الشرق الأوسط, وبعد مضى أكثر من خمسة عشر عاما على حكمه رئيسا للوزراء ثم رئيسا للجمهورية, إذا به يؤكد صحة النظرية ولا ينفيها, فرغبته فى تدشين نظام سلطوى فاقت مساعيه فى أن يكون مثالا لغيره.
انتهت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية التركية منذ أيام وفاز فيها أردوغان بنسبة 52.6 % فى ظل نظام رئاسى جديد يعطيه صلاحيات بلا حدود تقريبا, وكان له ما أراد بعد استفتاء مثير للجدل على تعديل الدستور جرى فى إبريل العام الماضي, والسؤال هو هل تكفى نتائج تلك الانتخابات لضمان نجاحه مستقبلا أم أن التحديات الداخلية والخارجية التى يواجهها ستكون لها انعكاسات مختلفة على مستقبله السياسى ودوره الاقليمى ومكانة بلاده فى الإستراتيجية الدولية؟.
جرت الانتخابات التركية فى مناخ غير ديمقراطى لا يضمن لها الشفافية والنزاهة, بسبب حالة الطوارئ المفروضة على البلاد منذ عامين بعد محاولة الانقلاب الفاشلة التى أتُهم فيها فتح الله جولن، وما استتبعها من إجراءات قمعية, فضلا عن تقييد وسائل الإعلام والتضييق على منظمات المجتمع المدنى، ورغم ذلك فازت المعارضة بنسبة عالية يُعتد بها (47%) وتجاوزت المشاركة والتصويت الـ80% وهو ما يعنى أن المجتمع التركى بات منقسما على نفسه من ناحية ولكنه نشط سياسيا من ناحية أخرى, وهى حقائق يصعب على أى زعيم سياسى تجاهلها إذا بحث عن شرعية ديمقراطية بعيدا عن قاعدته الانتخابية التقليدية, والتى يمثلها هنا الإسلاميون بالنسبة لأردوغان.
لا تقتصر مشكلات الرئيس التركى على الداخل, وإنما علاقاته الخارجية وسياساته الإقليمية أصبحت هى الأخرى محلا لانتقادات شديدة حتى من أقرب حلفائه, تحديدا الولايات المتحدة وأوروبا, وتركيا بالذات ليست كأى دولة فى الإقليم, فنصفها غربى بحكم عضويتها فى حلف الناتو منذ مطلع الخمسينيات, والنصف الآخر شرقى, وهو ما يُرتب عليها التزامات وشروطا فى الحركة تختلف عن مثيلاتها من الدول الإقليمية الكبرى, ويجعل سياساتها واختياراتها أكثر تعقيدا, بل ويُضاعف من ثمن أخطائها, فحتى وقت قريب كانت تسعى للانضمام إلى الاتحاد الأوروبى بمعاييره المعروفة بخصوص الحريات وحقوق الإنسان, وهو ما أتى عليه أردوغان بانتهاكه المستمر لها, وعرضه لانتقادات عنيفة من دول الاتحاد, ليس ذلك فحسب, لكن سياساته فى القضايا الإقليمية أدخلته فى صدام مع أمريكا والغرب عموما, وبدا ذلك واضحا فى الملف السورى حيث اختلفت الأهداف والإستراتيجيات, سواء فيما يتعلق بإسقاط نظام بشار, الذى مثل أولوية لأنقرة فى وقت مبكر من الأزمة, أو فى قضية الأكراد, الذين تدعمهم واشنطن وتعتمد عليهم فى حربها ضد داعش على الأراضى السورية, بينما شن عليهم أردوغان حربا شرسة فى منطقة عفرين شمال سوريا خوفا وقمعا لأى نزعة انفصالية تُفضى بهم مع أكراد العراق وتركيا إلى اقامة دولة كردية, وأثار بتدخله العسكرى مزيدا من التوتر على علاقاته بدول الأطلنطى ومازال الحلف معترضا على هذه العملية, ولا شك أن المسألة الكردية مرشحة لمزيد من التصعيد بعد دخول حزب العدالة والتنمية فى ائتلاف برلمانى مع حزب الحركة القومية التركى المعروف بمواقفه اليمينية المتشددة تجاه الأكراد.
لم تقف الخلافات عند هذا الحد, وإنما مجمل سياساته فى سوريا والعراق والأزمة الخليجية, التى انحاز فيها لقطر على حساب دول المقاطعة الأربع (السعودية والإمارات والبحرين ومصر) باتت موضع اعتراضات إقليمية ودولية لا يمكن التغاضى عنها.
يضاف إلى ذلك اتجاه الزعيم التركى للانفتاح على روسيا, العدو القديم الذى استمر الصراع معه لما يقرب من خمسة عقود وطوال حقبة الحرب الباردة, ليسميها «بحليف الضرورة» فى الأزمة السورية, والأهم إقدامه على توقيع صفقة معها لشراء أنظمة دفاعية صاروخية (إس 400) لتتأزم أكثر علاقاته بالناتو, الذى اعتبرها خروجا صريحا وانتهاكا لمنظومة الحلف العسكرية الموحدة, وكذلك بالإدارة الأمريكية. لذلك لم يكن غريبا أن تنطلق دعوات لإعادة النظر فى وضع تركيا بحلف الناتو, وقد سبق تجميد عضويتها به عقب غزوها شمال قبرص 1974 وفرضت واشنطن آنذاك حظرا شاملا على تصدير السلاح إليها لم يُرفع إلا فى نهاية السبعينيات فى عهد كارتر مع قيام الثورة الإيرانية وتغيراعتبارات المواجهة الأمريكية فى المنطقة لتركز على طهران, ربما لن تصل الأمور إلى هذا الحد فى المرحلة الراهنة, لأنه مازال لأنقرة دور وظيفى تؤديه فى الشرق الأوسط وتجاه مناطق النفوذ الروسى, لكن فى حال إصرارها على استكمال صفقة الصواريخ مع موسكو قد يتم التلويح باستخدام سلاح العقوبات ضدها.
بنفس المنطق راهن أردوغان على تحسين علاقاته بإيران, شريكة موسكو فى سوريا, فى الوقت الذى تتخذ فيه إدارة ترامب ومعها دول إقليمية كبيرة موقفا عدائيا منها, لكبح سياستها التوسعية فى المنطقة, وهو ما يشير ببساطة إلى دخوله فى صدام جديد خاصة مع اقتراب تفعيل السياسات العقابية تجاهها, وفى كل الأحوال لن يتحمل خسارة حلفائه الغربيين الأساسيين ولن تعوضه عنها تحالفاته الوقتية.
إذن التحديات الداخلية والخارجية التى يواجهها زعيم العدالة والتنمية ليست من قبيل الأمور العارضة, وستكلفه الكثير إن عاجلا أو آجلا, ما لم يراجع سياساته, وليس هناك أبلغ من عنوان مجلة التايم الأمريكية الأسبوع الماضى, بأن سلطاته الواسعة التى حصل عليها لن تكفيه وحدها أو تحرره من العقبات والعثرات التى عليه أن يجتازها منفردا.
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع