إقالة وزير الخارجية الأمريكى ريكس تيلرسون تُعد التغيير الأكبر الذى شهدته إدارة الرئيس دونالد ترامب منذ توليه السلطة, فعلى الرغم من عملية تبديل القيادات المستمرة, التى اشتهرت بها هذه الإدارة فى مدى زمنى قصير, إلا أن التغيير هذه المرة قد يشكل علامة فارقة تؤشر لمرحلة جديدة فى سياسة الولايات المتحدة الخارجية تختلف جذريا مع سابقتها, فهى بمثابة فترة التمكين لتنفيذ رؤيته التى طرحها وقت أن كان مرشحا للرئاسة, وهى رؤية تتسم بالحدة والحسم, لم يكن تيلرسون بشخصيته المهادنة قادرا على تحقيقها.
أغلب الصحف الأمريكية توقعت تلك الإقالة قبل وقوعها, فالهوة بين الرئيس ووزير خارجيته كانت عميقة بحيث كان من الصعب تفادى صدام محتوم بينهما, فلم يكن هناك ملف خارجى واحد يتفق عليه الاثنان, وهو ما جعل الرسائل السياسية الآتية من واشنطن تبدو مزدوجة, فالخلافات شملت جميع الملفات بدءا من كوريا الشمالية مرورا بروسيا وإيران وانتهاء بالصراع العربى الإسرائيلى والأزمة الخليجية، حدة هذه الخلافات دفعت تلك الصحف إلى وصف تيلرسون بأنه امتداد لإدارة أوباما السابقة, التى يتناقض معها ترامب بشدة, بل ويمنحها حضورا قويا فى السياسات الحالية. والسؤال الجوهرى هو كيف نقرأ الحدث ونقيم أثره على منطقة الشرق الأوسط دون اختزاله فى معادلة الرابحين والخاسرين؟
لنتوقف عند بعض القضايا الأساسية موضع الخلاف, والتى إن تم ربطها ببعضها البعض قد تعطى صورة أشمل عن طبيعة السياسة الأمريكية القادمة التى يسعى ترامب لتدشينها, وفى مقدمتها الموقف من إيران حيث لم يُظهر تيلرسون حماسا لتعديل الاتفاق النووى معها, الذى يصر ترامب على إدخال تعديلات جوهرية عليه, أو إلغائه إن اقتضى الأمر وإعادة فرض عقوبات عليها, كذلك رفض دعم المعارضة فى الداخل ضد نظام الملالي, فى الوقت الذى دعا فيه الرئيس إلى دعمها والحد من التوسع الإقليمى لطهران الممتد من لبنان إلى العراق وسوريا واليمن, واعتبرها راعية الإرهاب فى العالم, لذلك بدا وزير الخارجية وكأنه مؤيد لوجهة نظر أوباما حيالها خاصة فيما يتعلق بدعوته لتقاسمها النفوذ مع السعودية, القوة الرئيسية المنافسة لها, وهو موقف يتصادم مع ترامب المنحاز للمملكة والتى جعلها محطته الأولى فى زياراته الخارجية ووقع معها صفقات سلاح بمئات المليارات آخرها فى مجال الطاقة النووية.
نفس الشىء ينطبق على الأزمة بين قطر ودول المقاطعة الأربع, السعودية ومصر والإمارات والبحرين, على خلفية اتهامها بدعم التنظيمات الإرهابية, وهو موقف أيده الرئيس عبر تغريداته على وسائل التواصل الاجتماعى, ولكن كان للوزير موقف مغاير ساع للتهدئة, ليتخذ بذلك مسارا مختلفا عن البيت الأبيض. ثم مرة أخرى, بعد إعلان ترامب عن قراره نقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس, مُعتبرها عاصمة موحدة لإسرائيل, تأتى تصريحات تيلرسون حذرة تعطى انطباعا مختلفا, إذ أقر بأن عملية النقل ستستغرق عامين (ويبدو أنه على غير الحقيقة) وأن الوضع النهائى للمدينة ستحدده المفاوضات بين الفلسطينيين والإسرائيليين, أى باختصار كان معاكسا لتوجهات الرئيس. فهل ثمة رابط بين هذه القضايا التى تبدو متفرقة؟ الإجابة نعم. وقد تكون صفقة القرن هى وحدها الإطار الجامع لها.
تلك الصفقة التى تعمدت الإدارة طويلا إحاطتها بنوع من الغموض وتركت التسريبات بشأنها إلى الدوائر غير الرسمية, تتكون من شقين, الأول يتعلق بتسوية القضية الفلسطينية, والآخر بالسلام الإقليمى بين العرب وإسرائيل. فالشق الأول, والذى تم تداوله كثيرا يقوم على إقامة دولة فلسطينية تشمل قطاع غزة وأجزاء من الضفة الغربية المقسمة حاليا إلى ثلاث مناطق (أ) و(ب) و(ج) تبعا لدرجة السيادة بين الجانبين الفلسطينى والإسرائيلى على أن تكون المنطقتان الأوليان ضمن حدود الدولة المرتقبة, وتكون عاصمتها بلدة أبو ديس أو رام الله وليس القدس الشرقية, على أن يتقرر الاتفاق على تبادل الأراضى والحدود النهائية فى المفاوضات فى ظل الإبقاء على المستوطنات الإسرائيلية, وإسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين, وأن تقوم الدول المانحة, خاصة الخليجية, بمضاعفة مخصصاتها للسلطة الفلسطينية من أجل إقامة البنية الأساسية وكل ما يتطلبه إقامة دولة قابلة للحياة, وأن ذلك من وجهة نظر إدارة ترامب يدخل فى إطار حل الدولتين الذى تلتزم به الولايات المتحدة, لأن الحل الذى تقترحه إسرائيل لا يخرج عن حكم ذاتى لفلسطينيى الضفة يربطهم باتحاد كونفدرالى مع الأردن, أو إدارى لسكان غزة مع مصر, ومن هنا يمكن فهم تصريحات نيكى هايلى المندوبة الأمريكية بالأمم المتحدة بأن خطة السلام التى تقترحها بلادها, لن يحبها ولن يكرهها الطرفان (أى الإسرائيلى والفلسطينى) ما يعنى بداية الإعلان الرسمى عن الصفقة, وقد تحدث محمود عباس رئيس السلطة الوطنية صراحة عن ضغوط يتعرض لها من بعض العواصم العربية لقبول خطة السلام, لأن القادم قد يكون أسوأ, فضلا عن تلويح واشنطن بوقف مساعداتها المالية للسلطة وإغلاق مكاتبها فى واشنطن. أما الشق الثانى, المعنون بالسلام الإقليمى, فيفترض إقامة تحالف عربى برعاية أمريكية لمواجهة إيران تكون إسرائيل جزءا منه, وهذا ما تُعطى له الأخيرة أولوية, مثلما أشار رئيس وزرائها بنيامين نيتانياهو, أثناء زيارته إلى أمريكا الأسبوع الماضى بعد لقائه بمسئولين من الإدارة والكونجرس وأيضا فى خطابه الذى ألقاه أمام لجنة العلاقات العامة الأمريكية الإسرائيلية (إيباك). بعبارة أخرى, إن صفقة القرن المقترحة لا تختص فقط بعملية السلام وأنما تنطلق من رؤية أشمل لوضع الإقليم ككل لذا سُميت بالصفقة, وبغض النظر عن رفضها أو قبولها من الجانب العربى, أو أن أيا من شقيها قد يسبق الآخر, فالواقع إنها تُعبر عن رؤية ترامب وتوجهاته واختياراته وبالطبع شكل تحالفاته الإقليمية, التى تعتمد فى جوهرها على معسكر الاعتدال (السعودية ومصر والأردن) وهو الانحياز الذى صرح به فور فوزه فى الانتخابات. لا شك أن لكل ذلك علاقة بإقالة وزير خارجيته تيلرسون, وبإعطاء إشارة البدء لوضع الصفقة موضع التنفيذ, المهم أن تعيين مايك بومبيو عضو الكونجرس الجمهورى المتشدد والرئيس السابق للسى آى إيه الموالى له, خلفا للوزير المقال, يستهدف بالدرجة الأولى تحقيق التناغم بين أركان إدارته, لذلك قد لا تقف الإقالات عند هذا الحد, إلى أن يتمكن من صياغة سياساته الخارجية بما يتوافق تماما مع رؤيته الخاصة للعالم وللشرق الأوسط.
نقلًا عن الاهرام القاهرية