مازالت أمريكا تتصرف كقوة عظمى وحيدة متحكمة فى العالم, تنفرد بالقرار وتُملى إراداتها على الجميع, سواء كانوا شركاء أو حلفاء أو خصوما وأعداء, ففى وقت من الأوقات كان هناك رهان, بعد اعتلاء بوتين السلطة فى الكرملين, بما عُرف عنه من صرامة وحزم ورغبة عارمة فى استرجاع مجد بلاده زمن الاتحاد السوفيتى عندما مثّل القوة الموازية للولايات المتحدة فى عصر الثنائية القطبية, حيث امتلكا وحدهما قوة الردع المتبادل ودارت حرب باردة بينهما لاقتسام النفوذ فى أرجاء المعمورة, إلا أن هذا الرهان لا يبدو صحيحا الآن, وربما جاءت قمة هلسنكي, بين الزعيمين الأمريكى والروسي, لتكشف هذه الحقيقة جلية واضحة, وهو ما يفسر الاهتمام الكبير الذى حظيت به, إذ تعتبر نقطة مفصلية شاهدة على تبادل التفاهمات والصفقات إنما دون تغيير فى طبيعة وبنية النظام الدولى الأحادى القطبية, فموسكو لم تعد العدو, الذى تخشاه واشنطن والقادر على صد سياستها والوقوف أمامها بندية, صحيح أن الأولى دولة قوية ولكنها ليست بالقوة التى تجعلها قوة عظمى ثانية. لذلك لم تكن مصادفة أن يخرج ترامب من القمة ليبدأ مباشرة فى ممارسة ضغوطه هنا وهناك تنفيذا لسياساته المقررة سلفا ورؤيته التى يسعى لفرضها خاصة فى المنطقة, ومثال ذلك تعامله مع دولتين شرق أوسطيتين هما تركيا وإيران على ما بينهما من تناقضات وأيضا مع الفروقات الشاسعة فى طبيعة علاقات كل منهما ببلاده, فأنقرة حليف تقليدى وعضو بحلف الناتو أما طهران فهى على العكس مصنفة فى خانة الأعداء منذ ثورتها الإسلامية, ولعل القاسم الوحيد المشترك بينهما هو تبنى كل منهما مشروعا إقليميا توسعيا تُستخدم فيه كل الأدوات وفى مقدمتها الأداة العسكرية والميليشيات المسلحة التى تخلق لهما مراكز نفوذ ووجودا على أراضى الدول الأخري, أحدهما بهدف إحياء مشروع الخلافة السنية بصورة عصرية, والأخرى تستند فيه إلى مذهب عقيدى شيعى تستعيد من خلاله أمجاد الإمبراطورية الفارسية, لذا طالت أذرعهما كل الدول التى شهدت انهيارا وفوضى وحروبا أهلية, من سوريا والعراق ولبنان إلى اليمن وغزة وغيرها, ولكن لأن فى عصر الأحادية القطبية بما تقتضيه من فرض الهيمنة على جميع المناطق, ليس مطلوبا أو مسموحا للدول أن تتمدد خارج حدودها أو تلعب أدوارا غير تلك المرسومة لها أو المتفق عليها والموظفة لخدمة الإستراتيجية الأمريكية, فكان لزاما التدخل وممارسة أقصى درجات الضغط لتحجيم أى قوة إقليمية تخرج عن هذا الإطار. لذا يمكن قراءة ما تمر به حاليا العلاقات الأمريكية التركية ومثيلاتها الإيرانية, فمنذ أيام وبعد كثير من الشد والجذب, صرح نائب الرئيس الأمريكى مايك بنس بأن أنقرة ستتعرض لعقوبات جسيمة على خلفية احتجازها القس الأمريكى المقيم على أراضيها آندرو برونسون المتهم بمساعدة جماعة فتح الله جولن التى يُحملها أردوغان المسئولية عن محاولة الانقلاب على حكمه عام 2016, و لم يقف الأمر عند هذا الحد, بل تم توقيع عقوبات فعلية على وزيرى العدل والداخلية التركيين, وربما الرسالة التى أرادت إدارة ترامب ايصالها تتعلق بتقليم أظافر تركيا لمراجعة مجمل سياستها الإقليمية, خاصة أنها تعلم أن مراهنة أنقرة على روسيا محدودة بسبب الخلافات بينهما حول الملف السوري, وأيضا بالنسبة للأكراد الذين تحاربهم على الأراضى السورية, بعد أن أبدى بوتين تفهما لدعم أمريكا لهم.
الشيء نفسه يسرى على طهران, إذ تزامنت تلك السياسة العقابية على نظام أردوغان بتشديد العقوبات على نظام الملالي, التى بدأت بانسحاب أمريكا من الاتفاق النووى معه ثم توقيع عقوبات اقتصادية عليه وعلى كل من يتعامل معه, ما أدى إلى خروج أكثر من 20 شركة أوروبية وأمريكية من السوق الإيرانية وانهيار العملة المحلية, وهى العقوبات التى ستبلغ مداها الأشهر المقبلة بعد الحظر الذى سيسرى على تصديره للنفط والمواد البترولية, وليس خافيا ما يتعرض له النظام أيضا من ضغوط سياسية جراء الأزمة الاقتصادية من ناحية ومظاهرات الاحتجاج ضده التى باتت شبه يومية من ناحية أخري, وكلها عوامل تؤدى إلى تآكل شرعيته ولن تفلح معها الاستمرار فى الاعتماد على ادعاءاته الأيديولوجية القديمة, التى لم يستطع أن يبرر بها للمواطن الإيرانى إنفاقه الهائل على تدخلاته العسكرية من خلال حرسه الثورى وميليشياته المسلحة ووكلائه المحليين فى سوريا واليمن وقبلهما فى لبنان, والتى تُفاقم من أزماته الداخلية, باختصار أصبح النظام فى أضعف مراحله التى قد تنذر بانهياره, لولا قبضته الأمنية التى باتت المعول الرئيسى فى بقائه. هذه الأوضاع هى ما دعت الرئيس الأمريكى إلى الإعلان عن قبوله بالحوار معه على أساس الشروط التى وضعها وتبلغ 12 شرطا تتخلى فيها إيران عن مبدأ تصدير ثورتها للخارج وتتقلص سياستها الإقليمية لتعود دولة عادية تمارس سيادتها داخل حدودها, وتنهى عداءها التاريخى للغرب والولايات المتحدة, أى أن المطلوب باختصار أن ينقلب النظام على ذاته ويخرج بصورة جديدة كدولة قومية وليست توسعية. لا شك أن روسيا بدورها أعطت الضوء الأخضر لأمريكا لأن تمضى فى سياساتها مع النظام الإيرانى إلى المنتهي, إذ وافقت على تخفيض دور إيران فى سوريا وإبعاد قواتها مسافة 85 كم جنوب الجولان ضمانا لأمن إسرائيل, ولم تعترض على استهداف الأخيرة مواقعها العسكرية هناك والتى تمت بتنسيق إسرائيلى روسى كامل, وبالتبعية اتخذ نظام بشار نفس الموقف, فالحماية الروسية تظل أهم له من أى حماية أخرى حتى إنه رفض طلبا بإقامة مراكز ثقافية إيرانية على المناطق المحررة فى بلاده حتى لا يُصبح وجودها مبعثا لمزيد من المشكلات مع القوى الدولية أمريكية كانت أم روسية. هكذا انتهت قمة هلسنكى بنتائجها المعلنة وغير المعلنة, لتُمهد الأرضية, لا لحرب واسعة كما قد يتبادر للأذهان, وإنما لتسويات إقليمية كبرى تقود كلها إلى إرساء قواعد ما يسمى بالشرق الأوسط الكبير أو الجديد وفق ما خُطط له.
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع