بقلم : د. هالة مصطفى
فى الوقت الذى احتفلت فيه أوروبا والعالم بمئوية الحرب العالمية الأولى بعقد مؤتمر بباريس حمل عنوانا مناقضا لكل ما قامت عليه تلك الحرب, وهو «ترسيخ السلام بين الدول» كان المشهد فى الشرق الأوسط باقيا على ما هو عليه, يشهد صراعات عنيفة وحروبا تعصف بشعوبه وتستنزف ثرواته، حروبا تحركها رغبة محمومة فى البحث عن الزعامة الإقليمية بالمنطق نفسه الذى سبق وأدى إلى حربين عالميتين دمرتا دولا ومدنا، وخلفتا وراءهما ملايين من القتلى والجرحى، سعيا للزعامة العالمية وطموح التوسع والهيمنة والأحلام الإمبراطورية، قبل أن يجلس أعداء الأمس متجاورين اليوم، فأوروبا التى دارت المعارك على أراضيها وكان لها النصيب الأكبر من هذا الدمار، باتت تتحدث ليس فقط عن الاتحاد والحلف العسكرى الذى جمع بين دولها وإنما عن إمكان إنشاء جيش أوروبى موحد، بينما تسعى المنطقة هنا لإحيائه.
دائما ما تحتل الحروب مكانة مركزية فى البنية الفكرية للزعامة التقليدية التى تحكم توجهات الدول، رغم أنها كما يخبرنا التاريخ تؤدى غالبا إلى عكس المتوقع منها, فقد انهارت على إثر الحرب العالمية الأولى إمبراطوريتان عتيدتان العثمانية والنمساوية المجرية, مثلما أودت بحكم القياصرة أو الإمبراطورية الروسية ليخلفها الاتحاد السوفيتى، ولكن هذه النتيجة لم توقف الحروب الفرعية مثل التى اندلعت بين بولندا والسوفيت والحرب التركية اليونانية، بل مهدت لظهور الفاشية والنازية فى كل من إيطاليا وألمانيا، لتعيدا التنافس على الزعامة وتكوين الإمبراطوريات، وهما الحركتان اللتان قادتا العالم مرة أخرى إلى حرب عالمية ثانية أكثر فظاعة ودموية، وانتهى الأمر كما هو معروف بهزيمة المحور بقيادة ألمانيا وكذلك الإمبراطورية اليابانية التى عرفت بنزعتها العسكرية التوسعية، لكن المدهش فى الأمر أن انهيار الإمبراطوريات لم يقتصر على المهزوم وإنما امتد إلى المنتصر، فانهارت الامبراطورية البريطانية بدورها بحكم الأزمة الاقتصادية الطاحنة التى أفقدتها القيادة العالمية واحتاجت إلى المساعدات الأمريكية لإنقاذها من الإفلاس.
لم تكن تجربة الاتحاد السوفيتى فى الزعامة التى تلت تلك الحقب بأفضل حالا, حيث انتهت بتفككه, وبدت مصالح الدولة الروسية أهم الآن من الركض وراء النزعة الإمبراطورية وضم الدول الأخرى تحت لوائها قسرا, والأكثر من ذلك أن الولايات المتحدة التى انفردت بزعامة العالم باتت تعانى مصاعب هذه الزعامة، إذ تسعى القوى الدولية الكبرى فى المرحلة الراهنة لإيجاد نظام عالمى متعدد الأقطاب. لكن وعلى الرغم من كل الحقائق التاريخية, مازالت المنطقة العربية والإسلامية أو الشرق الأوسط عموما يعيش زمن الصراع على الزعامة بمفهومها القديم، ففى الخمسينيات والستينيات كان المشروع الناصرى رمزا لها باسم المد القومى العربى، ومع الاعتراف بما لاقاه من قبول واسع فى المنطقة وتمتع زعيمه بكاريزما ملحوظة، إلا أنه لم يستطع أن يحظى بالإجماع ولا أن يقيم تحالفات ثابتة, أو يتجنب عداوات شرسة، وانتهى الأمر بالفشل، وعندما حاول صدام حسين أن يستنسخ صورة مشوهة من تلك الزعامة باتباع سياسات عسكرية عدوانية، كانت نهايته مؤلمة. لم تنته القصة عند هذا الحد، إذ أقبلت السبعينيات حاملة معها زعامة من نوع آخر, زعامة مغلفة بطابع دينى خاصة بعد نجاح الثورة الإسلامية فى إيران، رافعة شعار تصدير ثورتها خارج حدودها ليمنحها غطاء شرعيا مذهبيا شيعيا لسياستها التوسعية، بينما انقسم العالم السنى بين القيادة السعودية التقليدية وتلك التركية التى تأكدت منذ تولى رئيسها أردوغان الحكم، تحدوه من ناحيته الرغبة فى إحياء الخلافة العثمانية, أو ما يطلق عليه إعلاميا العثمانية الجديدة لتصبح خريطة المنطقة بأكملها مسرحا لحروب الزعامة والتمدد شرقا وغربا وتكتسب هوية طائفية، بل اختلطت التحالفات بين المعسكرين ونجحت طهران فى اختراق العالم السنى بتحالفها مع حركتى حماس والجهاد الإسلامى الفلسطينيتين، وجانب من الطائفة السنية اللبنانية وكذلك قطر, وتأرجحت أنقرة ما بين السعودية وإيران حسبما تقتضيه أجندتها المرحلية. هذا الواقع خلف على مدى ما يقرب من أربعة عقود، حروبا أهلية وأخرى بالوكالة وأدى إلى تقويض دول وظهور الميليشيات المسلحة التى تتحدى الجيوش الوطنية وربط الأوضاع الداخلية بإرادة قوى خارجية لتوظيفها فى صراعها على الزعامة التى تقتضى السيطرة على مصادر الثروة والتحكم فى الممرات الملاحية والمواقع الاستراتيجية, وأصبح هذا هو حال أغلب الدول التى تُستغل أراضيها فى مثل هذا النزاع، من العراق وسوريا ولبنان إلى ليبيا واليمن وصولا للخليج، وبالتالى أصبحت جميع الملفات مفتوحة تستعصى على الحلول السياسية أو ضمان الحد الأدنى من الاستقرار.
أما القوى الدولية وتحديدا الولايات المتحدة التى مازالت تعتبر الشرق الأوسط منطقة محورية فى استراتيجيتها, فتعمل على الاستفادة القصوى من مثل هذه الصراعات، فتارة تعتمد على دول معسكر الاعتدال العربى، وتارة أخرى تنحاز للدور القيادى لتركيا وتقديم تجربتها كنموذج يُحتذى لدول الإقليم، وفى مرحلة تعمَد لاحتواء إيران ومهادنتها، فتغض الطرف عن حزب الله ذراعها الرئيسية فى حروبها بالوكالة, وتوقع معها الاتفاق النووى، ثم فى مرحلة أخرى تختار سياسة المواجهة معها فتنسحب من الاتفاق وتعمل على الحد من وجودها فى سوريا، بالتنسيق مع روسيا حفاظا على أمن إسرائيل، وتلجأ فى هذه المواجهة للسعودية التى تعاديها إيران، والسياسة الأمريكية هنا ليست متناقضة بقدر ما هى نفعية تتغير وفقا لمصالحها فى لحظة بعينها.
إذن حروب الزعامة دائما خاسرة إن لم تكن مدمرة لأصحابها، وكان الكاتب السعودى المعروف عبدالرحمن راشد محقا عندما أشار فى مقال له بجريدة الشرق الأوسط (30/10/2018) إلى «أنه ليست هناك أمة واحدة قائدة ولا زعيم واحد للمنطقة بل هناك مجموعة من القوى الإقليمية لا واحدة متفوقة» اعتمادا على الميزات النسبية التى تملكها كل منها، فالزعامة بصورتها التقليدية أصبحت من أوهام الماضى.
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع