بقلم : د. هالة مصطفى
بدأت العقوبات الأمريكية على إيران تدخل مراحلها المفصلية بعد إعلان إدارة ترامب وقف الإعفاءات التى كانت قد منحتها مسبقا لثمانى دول لشراء النفط الإيراني، وهى اليونان وإيطاليا وتايوان (وقد توقفت فعليا) وتبقت خمس دول، تركيا والصين واليابان والهند وكوريا الجنوبية، وهى التى شملها الإعلان الأخير وذلك بعد انقضاء مهلة الستة أشهر التى أعطيت لها، ويهدف القرار الذى جاء ضمن نظام عقابى صارم إلى تخفيض صادرات النفط الإيرانية إلى الصفر وبالتالى حرمان طهران من مصدر دخلها الرئيسي، وقد اتخذت هذه العقوبات منحنى متصاعدا منذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووى معها الذى وقع عام 2015 وكان من المفترض أن يُحد من أنشطتها فى هذا المجال والسماح بمراقبة وتفتيش مفاعلاتها النووية مقابل تخفيف العقوبات المفروضة عليها، التى ترجع فى الأصل إلى تاريخ قيام الثورة الإسلامية 1979 وما صاحبها من أزمة احتجاز عدد من الدبلوماسيين الأمريكيين داخل سفارة بلادهم هناك، وتزامن مع نفس القرار إدراج الحرس الثورى الإيرانى ضمن قائمة المنظمات الإرهابية وهو إجراء غير مسبوق، حيث اقتصر الأمر قبل ذلك على بعض قياداته كأفراد، والمعروف أنه يمثل أحد الأعمدة الرئيسية لنظام الملالى منذ أسسه آية الله الخومينى كجناح عسكرى مواز للقوات النظامية، حماية للنظام الناشئ وقتئذ لكن على أرض الواقع تحول إلى أحد أهم القوى ليس فقط العسكرية وإنما أيضا السياسية والاقتصادية وهو الذى يتولى تنفيذ المهام الكبرى فى الداخل والخارج. باختصار تسعى تلك العقوبات إلى فرض حصار شبه كامل على النظام الإيراني، فإلى أى مدى يمكن أن تنجح؟ وما مدى فاعلية هذه الأداة فى تحقيق الأهداف الأمريكية؟
أمريكا هى الدولة الوحيدة فى العالم التى تستخدم سلاح العقوبات وعلى أوسع نطاق ممكن، بحيث يصعب حصر الدول التى تستخدمه ضدها قديما وحديثا، ولا فرق هنا بين إدارة جمهورية أو ديمقراطية، فالوسيلة العقابية باتت ركنا أساسيا من إستراتيجياتها وقد تسعى من خلالها إلى تحقيق نفس أهدافها من التدخلات العسكرية وبتكلفة أقل، كما أنها أداة أكثر مرونة، ما يتيح لها تحديد أهداف مرحلية لكل فترة زمنية، أى قد تبدأ بحصار الأنظمة لإضعافها وقد تنتهى بإسقاطها، وهى تطبقها على الدول التى قد تعُدها عدوة أو صديقة أو حتى حليفة، وكذلك على الشخصيات السياسية كأفراد، وتتنوع بين الحظر الاقتصادى والتجارى والمالى والدبلوماسى والعسكري، وقد تصل إلى حد عزل تلك الأنظمة دوليا، خاصة أن أى نظام سياسى يخضع لعقوبات أمريكية تُحجب عنه مساعدات المؤسسات المالية الدولية ويكون تصنيفه الائتمانى فى أدنى المستويات وتهرب منه الاستثمارات، كما أن أغلب الدول التى مورست ضدها هذه الوسيلة شهدت اضطرابات داخلية عنيفة بسبب تدهور الأحوال المعيشية لمواطنيها جراء الحصار والفساد المستشرى من ناحية، ولأنها ـ أى العقوبات ـ عادة ما تُوجه إلى أنظمة استبدادية ما يُسهل الانقلاب أو الثورة عليها، ولعل أشهر مثال فى هذا السياق هو كوبا التى تقع تحت طائلة هذه العقوبات منذ بداية الستينيات، وكان ذلك فى حقبة الحرب الباردة بحكم نظامها الشيوعى الموالى للاتحاد السوفيتى فى ذلك الوقت، وتبنيها سياسات التأميم التى امتدت إلى المصالح الأمريكية، ولم تفلح الانفراجة التى حدثت فى عهد أوباما وزيارته لهافانا فى رفعها، فقد أعادها ترامب إلى المربع الأول مرة أخرى لحين تغيير طبيعة النظام القائم، والشئ نفسه يسرى على كوريا الشمالية منذ انتهاء الحرب بين الكوريتين على شبه الجزيرة الكورية أوائل الخمسينيات، ورغم أنها اضطرت فى النهاية إلى القبول بالمفاوضات مع الجانب الأمريكي، فإن العقوبات مازالت سارية لحين نزع سلاحها النووي، وتحقيق تقدم فى مجالى الديمقراطية وحقوق الإنسان، كذلك الحال بالنسبة لروسيا بعد ضمها بالقوة القرم فى أوكرانيا، بل تم مؤخرا تشديد تلك العقوبات، ما أثر سلبيا على اقتصادها، أيضا هناك عقوبات مفروضة على نظام مادورو الحاكم فى فنزويلا بوصفه نظاما ديكتاتوريا وهو بلد يشهد حركة احتجاج واسعة يقودها جوايدو زعيم المعارضة، وقد تنتهى بتغيير النظام إذا ما انشق الجيش أو ساند الجانب المعارض مثلما حدث تماما فى شيلى عام 1973 ضد الحكم اليسارى لسيلفادور الليندي، ولم تكن المخابرات الأمريكية بعيدة عن الانقلاب الذى حدث بعد مرحلة العقوبات، وهو نمط متكرر فى كثير من دول أمريكا اللاتينية وفى إفريقيا أيضا، وقطعا الشرق الأوسط ليس استثناء، إذ تتعدد النماذج من عراق صدام وليبيا القذافى وسوريا الأسد إلى سودان البشير، الذى أسقطه أخيرا الحراك الشعبى بعد ثلاثين عاما من حكمه، تركيا أردوغان بدورها، وهى دولة عضو فى حلف الناتو أى حليف تقليدي، تم فرض عقوبات على وزيريها للعدل والأمن الداخلى وفقا لقانون ماجنسكى الأمريكى المُطبق على الأفراد بسبب احتجازها القس أندرو برونسون ولم تُرفع إلا بعد الإفراج عنه.
المؤكد أن ما تتعرض له إيران الآن ليس بالشئ الهين، ولا يمكن التقليل من خطورته على مستقبل نظام الجمهورية الإسلامية وحلفائه فى المنطقة، إن لم يكن آنيا فسيكون على المدى الأطول، فهو نظام متهم بدعم وتمويل الإرهاب ومساندة التنظيمات التى تُصنفها أمريكا إرهابية من حزب الله اللبنانى إلى حركتى حماس والجهاد الفلسطينيتين، وله طموحات إقليمية توسعية فقد سيطر على لبنان فى السابق ثم العراق الذى أصبح له اليد الطولى فيه رغم ما تكبدته القوات الأمريكية من خسائر فادحة جراء غزوها له عام 2003 وحاليا فى سوريا بما تشكله من خطر على أمن إسرائيل بحكم الحدود المشتركة معها، وهو ما يفعله أيضا فى اليمن من خلال الحوثيين للتحكم فى باب المندب والبحر الأحمر، وفوق ذلك يمتلك سلاحا نوويا.
قد يكون الهدف الأمريكى الأبعد هو إسقاط النظام، ولكنه ليس بالهدف السهل أو الذى يمكن تحقيقه بالتدخل العسكري، لكبر حجم وإمكانات الدولة الإيرانية وامتداد أذرعها الإقليمية، لذلك فالهدف الحالى من العقوبات هو إضعافه وإجباره على التفاوض والعودة إلى داخل حدوده، ما قد يمهد الطريق لسقوطه داخليا، خاصة أنه يلقى فعليا معارضة شعبية لا يمكن تجاهلها.
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع