الاكتشافات الضخمة للغاز فى شرق البحر المتوسط مثلما خلقت فرصا جديدة للتعاون الإقليمى والدولى, فإنها ولدَت أيضا أسبابا للصراع والتنافس, ولكون مصر حظيت بنصيب كبير من تلك الاكتشافات بعد ظهور حقل «ظُهر» فضلا عن امتلاكها منفردة بنية أساسية قادرة على تصنيع وتسييل الغاز تؤهلها لأن تُصبح مركزا إقليميا للطاقة, فقد تعرضت لكثير من حملات الهجوم من بعض القوى فى الخارج والداخل, فتركيا سرعان ما أعلنت رفضها لاتفاقية تعيين الحدود البحرية التى وقعتها القاهرة مع قبرص، بدعوى احقيتها فى ثروات هذه المنطقة.. لم تقف حملات الهجوم عند هذا الحد وإنما انتقلت إلى مساحة أخرى تتعلق بإبرام شركة «دولفينوس» المصرية إتفاقا تجاريا مع مجموعة «ديليك» الإسرائيلية, لتوريد الغاز بغرض تسييله وتصديره عبر خطوط الأنابيب المصرية إلى الأسواق العالمية, بقيمة 15 مليار دولار على مدى 10 سنوات, ومن ضمن ما قيل أن دولفينوس ليست سوى واجهة لجهات سيادية وأن الصفقة تمت بعلم السلطات المصرية, وعلى فرض أن ذلك صحيحا فهو ليس اتهاما, لأنه الحق الطبيعى للدولة التى تسعى تلك الحملات عن قصد لإبتزازها من جهة التعامل مع إسرائيل تحديدا, واللعب بالورقة الفلسطينية للترويج بتخلى مصر عن دورها التاريخى المعروف. ولا شك أن مثل هذه الإدعاءات تثيرالعديد من الملاحظات:
أولا, أن مصر منذ توقيع اتفاقيات كامب ديفيد ومعاهدة السلام المصرية الإسرائيلية وهى تسعى لحل القضية الفلسطينية ليكون سلاما شاملا, ولم تُشجع على التطبيع الكامل مع إسرئيل لهذا الغرض, ولكنها فى المقابل لم تنف وجود مستويات أخرى للتعاون والتزامات ترتبها تلك الاتفاقيات, حيث وقعت معها فى 2004 إتفاقية «الكويز» التى تنص على وجود مكون إسرائيلى فى المنتجات المصرية نظير التمتع بالأفضلية التجارية فى دخول الأسواق الأمريكية, وهو ما استفادت منه مصر اقتصاديا, أى أن التعاون فى مجال الغاز ليس سابقة, وعلى صعيد آخر شهدت الفترة الماضية تفاهمات بين الجانبين لتجاوز بعض نصوص البرتوكول الأمنى الملحق بالمعاهدة، الذى يقسمها من حيث درجة التسليح إلى مناطق (أ) و(ب) و(ج), لضرورات الحرب على الإرهاب التى تخوضها قواتنا المسلحة هناك, ولم تؤثر أى من هذه العوامل على دور مصر كراعى ووسيط إقليمى رئيسى فى عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين, وهو دور ما كان يمكن أن تقوم به لولا وجود علاقات مع الطرفين, لذلك حاولت كل من تركيا وقطر اختطاف هذا الدور لذات السبب, إلا إنهما افتقدتا لمقوماته, فالأولى دولة شرق أوسطية ولكنها غير عربية ولا تملك ميراثا سياسيا فى ممارسته, والأخرى أصغر حجما ومكانة من أن تكون بديلا لمصر, بل أكثر من ذلك, ومع استمرار مجالات التعاون مع إسرائيل المشار إليها سابقا, لم تتوان القيادة المصرية فى المبادرة لعقد مصالحة فلسطينية بين سلطة فتح وحركة حماس دفعًا لجهود السلام, رغم تورط الحركة فى قضية أنفاق سيناء التى يستخدمها الإرهابيون وتواطئها مع جماعة الإخوان إبان ثورة 25 يناير وهناك قضايا مازالت منظورة أمام المحاكم المصرية حول تلك الوقائع.
ثانيا, المصلحة الوطنية العليا للدولة, التى يجب أن تحظى بالأولوية وتتحدد بموجبها سياساتها الخارجية, خاصة فى ظل الأوضاع الراهنة والصراعات التى يشهدها الإقليم وتكالب القوى الكبيرة فيه على توسيع نفوذها وتأثيرها ومكاسبها, بعبارة أخرى إنه منطق الدولة الذى يُحرك الجميع. ففى أزمنة ماضية اجتاحت التيارات الفكرية والسياسية العابرة للدولة الوطنية كالقومية العربية والبعثية وغيرها المنطقة, وصكت مصطلح المصلحة القُطّرية إمعانا فى التقليل من أهمية الدولة الوطنية, ثم مالبثت تيارات الإسلام السياسى أن حلت محلها لتُشيع فكرة الخلافة أو الأمة الاسلامية الجامعة على حساب الوطن, وفى جميع الحالات اختلفت المرجعيات وبقيت النتيجة واحدة وهى الانتقاص من مبدأ الدولة الوطنية الحديثة, فآلت الأوضاع إلى ما آلت إليه الآن من تفكك أغلب الدول والإرتداد إلى الهويات الأولية من قبلية ومذهبية ودينية وعرقية.
ثالثا, إننا نعيش فى عصر الواقعية السياسية, وأى سياسة ناجحة هى تلك التى تستفيد من الظروف المحيطة, وكثيرا ما تكون متناقضة أو معقدة, لتعظيم المنافع وتقليل الخسائر, وكل من يدعو إلى عكس ذلك ينفى متعمدا حقيقة واضحة, فلم تعد الأيديولوجيات هى الحاكمة فى توجيه السياسات, إذ ثبت فشلها مثلما كان الحال مع تجربة الإتحاد السوفيتى الذى حاول تغيير العالم وفق أيديولوجيته الماركسية وسيطر بالفعل على أوروبا الشرقية بموجبها ثم انهارت التجربة برمتها فى النهاية, وسياسة روسيا, الوريث الطبيعى له, لا تقوم اليوم إلا على تلك الواقعية لدرجة تحالفها مع إيران الخومينية فى سوريا, بل أن الجمهورية الإسلامية ورغم كل مزاعمها الدينية والمذهبية ومشروعها الثورى المناهض للغرب الذى تُغلف به سياستها الخارجية تسلك فى الواقع سلوكا مناقضا تماما, وتكفى الإشارة إلى فضيحة إيران-كونترا وصفقاتها السرية مع الولايات المتحدة فى أفغانستان والعراق, ونفس الشيء يسرى على الصين التى حافظت على حزبها الشيوعى الحاكم لكنها انتهجت فى مقابله سياسة الاقتصاد الحر, أما بريطانيا فقد ضحت بوجودها فى الإتحاد الأوروبى إعلاء للمصلحة والواقعية معا, وحتى الولايات المتحدة, التى تُعد النزعة «المثالية» متجذرة فيها منذ عهد الرئيس وودرو ويلسون إلا أن النزعة «الواقعية» هى الغالبة دوما.
رابعا, إن الاقتصاد أصبح العنصر الفعال فى توجيه السياسة لأنه الضامن للتقدم والتنمية والاستقرار, وهو يفرض حتما الاعتماد المتبادل وليس العمل المنفرد, لذلك تتجه معظم الدول إلى التكتلات الاقليمية التى تستفيد من المزايا النسبية لكل دولة من الدول الداخلة فيها رغم ما قد يوجد من خلافات سياسية فيما بينها, على غرار تكتل «النافتا» و«الإفتا» و«الآسيان» ومجموعة الـ«البريكس». لهذه الأسباب وأكثر، لا تحتاج مصر إلى تبرير سياساتها فى مجال الغاز أوغيره بما فيها التعاقد مع الجانب الإسرائيلى والذى ستعقبه إتفاقيات مشابهة مع دول أخرى مادامت تنطلق من مصلحتها الوطنية.
نقلا عن الاهرام القاهريه