عندما تشكل الاتحاد الأوروبى قبل ما يقرب من نصف قرن كان من أهم النماذج الملهمة لكل الدول التى تسعى لتحقيق وحدة أو تكتل إقليمى يُعظم من مكانتها الدولية ويزيد من قدراتها الاقتصادية ويعزز نفوذها السياسى والعسكرى أيضا، ليس فقط على مستوى محيطها الجغرافى وإنما كذلك على الصعيد العالمى، وهو ما حققته بامتياز أوروبا فى تجربتها الفريدة بعد أن خرجت محطمة من الحرب العالمية.
هذه الوحدة بين دول القارة اعتمدت فى الأساس على الكثير من العوامل المشتركة ليس آخرها التوجه الاقتصادى الواحد القائم على مبادىء السوق الحرة والعملة الموحدة ولكن وبنفس القدر تقارب أنظمتها السياسية ومنظومة قيمها الفكرية والثقافية، والتى أدت فى النهاية إلى توحيد سياساتها الداخلية والخارجية, ولذلك أصبحت قطبا رئيسيا فى النظام الدولى, قادرا على لعب دور مستقل إلى حد كبير، حتى عن الولايات المتحدة الحليف التقليدى والتاريخى, ولكن ومع تغير الأوضاع والظروف ورحيل الزعامات القوية بدأت هذه الاستقلالية تضعف، والأخطر كان تزايد الخلافات التى أوصلت الأمور إلى حد الانقسام حول كثير من القضايا، بحيث بات من الصعب اليوم الحديث عن سياسة أوروبية موحدة فى ظل التحديات التى تواجهها سواء من داخلها أو خارجها.
لا شك أن خروج بريطانيا أو البريكسيت من الاتحاد الأوروبى شكل نقطة تحول كبرى ستظل لها تداعياتها على مسار السياسة الأوروبية لعقود مقبلة, فهى دولة كبيرة وقوية وكانت من أهم الدول القائدة فيه, وبخروجها باتت القيادة لكل من فرنسا وألمانيا، ولكن هاتين الدولتين بدورهما تعانيان من مصاعب داخلية تؤثر على دورهما, فالأولى تشهد منذ فترة غير قصيرة حركة احتجاج واسعة واضطرابات لم تعرفها باريس منذ اندلاع ثورة الطلبة فى 1968، وهو ما يُضعف من مكانة ماكرون, والأخرى تعانى من الصعود السياسى لتيار اليمين القومى أو المتطرف كما يُطلق عليه، والذى أدى بالمستشارة الألمانية ميركل للتخلى عن إعادة ترشحها عن الحزب الديمقراطى المسيحى الحاكم، وبالتالى عن منصب المستشارية, وهى ليست وحدها فى ذلك فنفس التيار يجتاح أغلب الدول الأوروبية وله أجندته الخاصة، ويميل فى النهاية إلى اتباع سياسة انعزالية ستغير حتما من وجه السياسة الأوروبية على المدى الأطول حال استمر فى كسب أرضية سياسية وأصوات الناخبين. أما الطعنة الأكبر التى تلقتها القارة فقد جاءت من الحليف, بعد تولى ترامب السلطة, إذ وجهت إدارته أعنف الانتقادات للناتو, عنوان الشراكة الأوروبية الأمريكية منذ تأسيسه, مهددا لأول مرة بالانسحاب منه ما لم تتحمل دوله نفقات حمايتها, بمعنى زيادة نصيبها من ميزانية الدفاع العسكرية للحلف, ما حدا بالرئيس الفرنسى, فى خطوة غير مسبوقة, إلى الدعوة للخروج من تحت هذه المظلة بإنشاء جيش أوروبى موحد بعيدا عن قيادة واشنطن.
لم تقف الأمور عند هذا الحد, لكن الخلاف بين الحليفين امتد إلى مجمل قضايا السياسة الخارجية خاصة ما يتعلق بالشرق الأوسط, فهناك تباين فى المواقف إزاء روسيا - بوتين فى مسألة أوكرانيا وضمها شبه جزيرة القرم بالقوة والتى ترى أوروبا أن السياسة الأمريكية لم تكن حاسمة فيها بالقدر الكافى منذ اندلاعها, فضلا عن تغاضيها عن تزايد النفوذ الروسى فى العديد من المناطق والأزمات والذى يأتى على حساب الدور الأوروبى, وحتى فى فنزويلا فعلى الرغم من اتفاقها معها على ضرورة تنحية رئيسها مادورو لصالح رئيس البرلمان جوايدو إلا أنها تعارضها فى مسألة اللجوء للتدخل العسكرى لحل أزمة الحكم المستعرة هناك, والشىء نفسه ينطبق على انسحاب الولايات المتحدة الأحادى من الاتفاق النووى مع إيران المعروف باتفاق الـ5+1 ومازالت الدول الأوروبية الموقعة عليه تُصر على البقاء فيه, ولم تغير موقفها بانعقاد مؤتمر وارسو أخيرا بدعوة أمريكية، والذى خُصص فى الأساس لمواجهة طهران كهدف يحظى بالأولوية القصوى ضمن الترتيبات الإقليمية الأمنية فى المنطقة, وبالمنطق نفسه جاء الإعلان عن الانسحاب الأمريكى المفاجئ من سوريا ليُربك سياسات الاتحاد الأوروبى تحديدا فى الحرب على تنظيم داعش فى المناطق السورية والعراقية التى يسيطر عليها.
بالإضافة إلى هذه التحديات الخارجية, أظهرت الأحداث نوعا آخر من الخلافات ينبع من داخلها, ففرنسا وإيطاليا على سبيل المثال تنازعتا حول الملف الليبى, رغم أن التدخل العسكرى للناتو وليس لأمريكا منفردة كان المعول الرئيسى فى الإسراع بسقوط نظام معمر القذافى دون إغفال للمسببات الداخلية فى الثورة على حكمه, ووصل التنافس بينهما إلى درجة احتضان روما حركة أصحاب السترات الصفراء التى تقود مظاهرات الغضب الفرنسية, فليبيا فى النهاية غنية بالنفط والثروة, وربما مازالت إيطاليا القوة الاستعمارية القديمة لها تعتبرها منطقة نفوذ خالصة لدولتها, وهو ما حال دون التوصل إلى تسوية سياسية فى هذا البلد الذى تمزقه الصراعات, ثم تكرر هذا المشهد الثنائى ولكن هذه المرة بين بريطانيا وفرنسا فيما يتعلق بالموقف من حزب الله, حين أدرجته الأولى على قائمة الإرهاب، وتحفظت الثانية لحساباتها الخاصة والتاريخية فى لبنان.
الحال ذاته ينسحب بصورة عامة على الصراع الفلسطينى ـ الإسرائيلى, خاصة بعد نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس وتزايد الحديث عن اقتراب الإعلان عن صفقة القرن ووضعها قيد التنفيذ، ما دعا رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس إلى التصريح بانتهاء الدور الأمريكى كوسيط نزيه, ورغم ما كان للدول الأوروبية من مواقف أكثر تقدما فيما يتعلق بحل الدولتين إلا أنها لم تقو على تقديم نفسها كبديل لهذا الدور.
هذه الأمثلة هى بعض من كل, لذا لم يكن غريبا أن تُصرح موجرينى رئيسة المفوضية الأوروبية, بأنه لم تعد هناك سياسة اوروبية مشتركة, فهل بات من الأفضل التعامل مع كل دولة أوروبية على حدة؟
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع