فى خطوة مفاجئة كتلك التى اعتاد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب أن يصدم العالم بها, وفى تغريدة له أعلن أن الوقت قد حان لتعترف واشنطن بسيادة إسرائيل على هضبة الجولان السورية, ولم تمض أيام حتى استضاف وزير خارجيتها بنيامين نيتانياهو بالبيت الأبيض, ليوقع رسميا على وثيقة تعطيها هذا الحق, متجاوزا بذلك القوانين الدولية وقرارات الأمم المتحدة التى تعترف بها أرضا سورية محتلة منذ عام 1967, وهى خطوة لم يجرؤ أى من الرؤساء الأمريكيين السابقين على الإقدام عليها على مدى العقود الخمسة الماضية، ليس لأنهم كانوا أقل انحيازا لإسرائيل ولكن خشية من ردود الأفعال الغاضبة التى قد تترتب عليها, لذلك راهن الكثيرون على أن تكون هذه لحظة عابرة ترتبط بشخصية ترامب الانفعالية وبالتالى لن تصبح سياسة ثابتة للولايات المتحدة من بعده, أو أنها جاءت لأغراض دعائية انتخابية ما تلبث أن تنتهى حال انتفاء الحاجة لتوظيفها باعتبارها مجرد قرار رئاسى لم يُصدق عليه الكونجرس, ولكن هل هذا صحيح؟ وهل يمكن اعتبارها مجرد خطوة أحادية منفصلة عما يجرى الترتيب له لمستقبل الشرق الأوسط وتحديدا فيما يتعلق بالخطة الأمريكية للسلام المعروفة بصفقة القرن؟
هذا الإجراء جاء متزامنا مع صدور تقرير لجنة مولر الخاص بالتحقيق فى مسألة التدخل الروسى فى الانتخابات الرئاسية الأمريكية دون إدانة للرئيس, أى أنه فى أقوى أوضاعه الداخلية والحديث عن رغبته فى الحصول على دعم اللوبى اليهودى حال ترشحه لفترة ثانية لا يُعد حجة قوية، لأن هذا العامل ليس مقصورا عليه فجميع المرشحين للمنصب كانوا ومازالوا يسعون لمثل هذا الدعم دون اتخاذ قرارات مماثلة, أما كونه يروج لترجيح فوز نيتانياهو فى الانتخابات الإسرائيلية التى ستُجرى بعد أيام فلا يمكن اعتباره مجرد تأييد لمرشح يقاسمه الانتماء إلى تيار اليمين الدينى المحافظ, وإنما الأرجح أن هناك مصلحة سياسية متبادلة ترتبط بتغيير الأوضاع الإقليمية وأنه شريك فيها, ومن ثم يكون هو أفضل اختيار للسياسة الأمريكية فى المرحلة الراهنة, وفى كل الأحوال فإن تلك السياسة لاتخضع فقط للمزاج الشخصى للرئيس فهناك أيضا المؤسسات الحاكمة وهى بدورها قوية, بل من المتوقع أن يُصادق الكونجرس رغم الأغلبية الديمقراطية فى مجلس النواب على قرار ترامب, فموقف الحزبين الجمهورى والديمقراطى الداعم لإسرائيل واحد.
أما عن توقيت القرار, فإن ما تشهده المنطقة من صراعات وحروب أهلية وطائفية وبالوكالة أضعفت دولها, ويقلل ولا شك من قدرتها على التصدى لأى مشروع إقليمى تقره القوة العظمى وتعمل على تطبيقه بما تتخذه من قرارات وإجراءات, ولا يختلف الأمر كثيرا بالنسبة للموقف الدولى رغم معارضة الاتحاد الأوروبى وروسيا القرار الأمريكى, فالأولى لن تدخل فى مواجهة مع الولايات المتحدة حتى مع تعرض تحالفهما لبعض العثرات من وقت إلى آخر, وموسكو التى أقدمت على ضم شبه جزيرة القرم فى أوكرانيا بالقوة العسكرية, لن تكون لمعارضتها مصداقية فى قضية الجولان، لأنها أقدمت على الشىء ذاته, ناهيك عن علاقاتها الوثيقة بإسرائيل, فهى التى أعطت لها الضوء الأخضر, بوصفها صاحبة النفوذ الأكبر فى سوريا, لضرب المواقع العسكرية لإيران هناك وإبعاد قواتها عن المناطق الحدودية الملاصقة للجولان حتى لا تُستخدم كمنصة صاروخية للهجوم على تل أبيب.
إن اعتراف أمريكا بضم الجولان لإسرائيل يمكن اعتباره فصلا جديدا فى صفقة القرن المفترض لها, من منظور واضعيها, أن تقود إلى حل تاريخى شامل لكل قضايا الوضع النهائى التى تجمدت بسببها عملية السلام منذ توقيع الفلسطينيين والإسرائيليين اتفاقيات أوسلو 1993 والمتعلقة بوضع القدس والحدود واللاجئين أو حق العودة إلى الدولة الفلسطينية المزمعة إقامتها, وإذا نظرنا إلى سلسلة القرارات والإجراءات التى اتخذتها إدارة ترامب سنجدها كلها تصب فى هذا الاتجاه, إذ بدأت بالاعتراف بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل ونقلت سفارتها إليها وألحقت بها قنصليتها التى كانت تمثلها لدى الفلسطينيين فى القدس الشرقية, باعتبار أن هذا الشطر من المدينة كان سيصبح عاصمة دولتهم المستقبلية, مثلما أغلقت مكتب منظمة التحرير فى واشنطن, بعدها أوقفت مساهمتها المالية لوكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين التابعة للأمم المتحدة (الأونروا) مما يعنى عدم اعترافها أصلا بتلك القضية, ثم جاء قرار الجولان ويرتبط مباشرة بقضية الحدود, التى لن تكون تبعا لنفس الصفقة على أساس حدود 1967 وإنما رسوم أخرى جديدة يتم فيها توسيع الحدود الإسرائيلية حسب المقتضيات الأمنية التى تراها وهو ما يحققه هذا القرار, وأيضا وفق مبدأ تبادل الأراضى بينها وبين السلطة الفلسطينية بخصوص الضفة الغربية, التى ستقام على معظمها الدولة الفلسطينية فيما عدا الأجزاء التى تشمل المستوطنات الإسرائيلية الكبيرة ويتم تعويض تلك المساحة بمساحة مماثلة من صحراء النقب الخاضعة للسيادة الإسرائيلية. وبما أن صفقة القرن تتحدث عن سلام إقليمى وليس فقط عن إسرائيلى فلسطينى, فإن الجانب الآخر منها والمتزامن معها, ينصرف إلى مواجهة الدول التى تُعتبر مهددة للأمن الإقليمى, وهنا يأتى الحديث عن إيران التى تمتلك سلاحا نوويا وتتزعم ما يسمى جبهة الممانعة الرافضة لأى تسوية سلمية فى الشرق الأوسط والداعمة لفكرة المقاومة المسلحة والتى تضم أهم حلفائها من النظام السورى وحزب الله اللبنانى وحركة حماس, ورغم أن هذه الجبهة تحولت إلى مجرد شعارات فإن طموح طهران فى التوسع الاقليمى, كان كفيلا بأن تتصدى لها السياسة الأمريكية سواء بالانسحاب من الاتفاق النووى أو بتشديد سياسة العقوبات وقد يصل الأمر إلى استخدام القوة العسكرية, ومن أجلها عُقد مؤتمر وارسو أخيرا.
هذه المعطيات هى أجزاء من كل حتى وإن لم يكن الرابط بينها واضحا صريحا فى هذه المرحلة, فالغموض الذى يحيط بالصفقة قد يكون متعمدا ومقصودا فى ذاته, لأن الأمر لا يتعلق بمجرد استئناف مفاوضات السلام كما كان فى السابق, وإنما تمهيد الأرض من خلال ترتيبات متراكمة تخلق أمر واقع جديد يفرض نفسه على الجميع وبعده لا يبقى سوى الإعلان عنها.
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع