جاء القرار المفاجئ لترامب بالانسحاب من سوريا, الذى استقال على إثره وزير الدفاع الأمريكى بدعوى أنه يُفقد بلاده مكانتها فى قيادة العالم، ليؤكد ما تردد طوال الفترة الماضية حول إعادة تشكيل النظام العالمى والانتقال من النظام الأحادى القطبية إلى آخر تعددى، تلعب فيه كل من روسيا والصين تحديدا أدوارا أكبر وتنافس الغرب فى قيادة العالم التى استمرت منذ نهاية الحرب العالمية الثانية, وهما بحكم التعريف قوتان مناقضتان له فى توجهاتهما السياسية والفكرية, فالنظام الدولى الذى تأسس بعد تلك الحرب كانت له اتجاهات ليبرالية واضحة واعتبر قيمها ومنطلقاتها الفلسفية فى نشر الديمقراطية وحكم القانون وضمان الحريات المدنية والدفاع عن مبادئ حقوق الإنسان قيما حاكمة ليس فقط للدول المؤسسة لهذا النظام, ولكن كنموذج تسعى لتعميمه على باقى أنحاء المعمورة, ولذلك كان المكون الليبرالى جزءا لا يتجزأ من سياساتها الخارجية, أما اليوم ومع صعود قوى أخرى مناهضة فى الجوهر لهذا الفكر يثار الجدل حول مستقبل الليبرالية, وهل سيظل لها مكان فى سياسات الدول الكبرى, وهل يمكن أن يقوم نظام عالمى متماسك بلا أفكار أو مبادئ إنسانية ليؤسس فقط على المصالح المجردة؟
طغت فكرة «الحرب الباردة الجديدة» بين واشنطن وموسكو من ناحية, وواشنطن وبكين من ناحية أخرى على معظم دوائر صناعة القرار والمراكز البحثية والدوريات الأكاديمية وفى مقدمتها «فورين أفيرز» الأمريكية التى أفردت مؤخرا لتلك القضية أعدادا خاصة, واصفة الأولى بالإستراتيجية والثانية بالتجارية, حرب تجسد التنافس والصراع على مناطق النفوذ فى العالم لتحقيق أقصى مكاسب, لكن يبقى تعاظم الدور الروسى هو التحدى الحقيقي, خاصة على مستوى الشرق الأوسط, فروسيا وليست الصين هى التى تمتلك القواعد العسكرية, ولها قوات على الأرض فى أكثر من موقع وتتسابق على صفقات السلاح, ولها تحالفات مع قوى إقليمية كبيرة وعلى رأسها إيران, ما يجعل لها موطئ قدم ليس فقط فى سوريا وإنما أيضا فى لبنان والعراق واليمن, كذلك على الجهة المقابلة تحتفظ بعلاقات قوية مع تركيا وإسرائيل, كما تسعى للعب دور نشط فى الخليج وإقامة علاقات أكثر متانة مع السعودية, باختصار حققت موسكو إنجازا يُحسب لها غيرت به خريطة التوازنات الدولية, حتى إن لم تتمتع بعناصر القوة الشاملة التى تحظى بها غريمتها الأمريكية, إذ تعانى ضعفا ملحوظا على مستوى اقتصادها الداخلى, أما الصين على الرغم من منافستها التجارية الشرسة وتفوقها فى بعض مجالات الصناعات التكنولوجية المتطورة ومبيعات السلاح فإن وجودها السياسى مازال متواضعا.
هذه المعطيات تصب فى حسابات موازين القوى والواقعية السياسية والتى سيكون لها انعكاساتها إن آجلا أو عاجلا على النظام الدولى برمته, ولكن تبقى الإشكالية الرئيسية حول طبيعة التغيير الذى سيحدثه صعود تلك القوى السلطوية إلى سدة المسرح العالمى، خاصة أنها تأتى فى وقت تتراجع فيه القيم الليبرالية فى بعض بلدانها الأصلية.
لم تكن مصادفة أن تكون الليبرالية حاضرة فى صياغة سياسات الدول الكبرى, وبالأحرى الولايات المتحدة, لأنها كانت توفر الشرعية لقيادة العالم, بل كانت مفتاحا رئيسيا للتعامل مع إعادة بناء دولتى ألمانيا التى كانت معقلا للنازية, واليابان بنزعتها الاستبدادية والتوسعية العسكرية وقتئذ, وقد صيغت دساتيرهما برعاية أمريكية فى هذا الاتجاه, والشيء نفسه سرى طوال حقبة الحرب الباردة وقت نظام القطبية الثنائية بين أمريكا التى قادت المعسكر الغربى والاتحاد السوفيتى بقيادته للمعسكر الشرقي, فقد تضمن الصراع جانبا فكريا وأيديولوجيا, «العالم الحر» فى مواجهة «الإمبراطورية الشيوعية الشمولية» لذلك فإطلاق تسمية الحرب الباردة الجديدة على المرحلة الراهنة ربما لا يكون دقيقا, لأنها حرب تدور فى فراغ فكرى ولا تستند الى الجوانب العقائدية السابقة.
بعد انقضاء تلك الحقبة بانهيار سور برلين وتفكك الاتحاد السوفيتى وتحرر دول أوروبا الشرقية وإعلان استقلال الجمهوريات السوفيتية, كانت سياسة إدماج تلك الدول تقوم على نفس الأسس التى تلخص فكرة الحرية على الأصعدة كافة, السياسية والاقتصادية والثقافية والحقوقية, وحتى مع الاعتراف بأن الأطراف الداخلة فى الحرب الباردة كانت لها مصالح لا يمكن إغفالها, إلا أن صراع الأفكار كان بدوره حاضرا وبنفس القوة.
استمر هذا الخط الفكرى ليُطبق على دول أخرى خارج هذه الحدود ولكن بالقوة والتدخل العسكرى المباشر لتغيير أنظمة وإقامة أخرى بديلة, وقع ذلك فى عهد كلينتون فى حالتى كوسوفو والصومال, وبوش الابن فى أفغانستان والعراق, ومع أوباما فى ليبيا واليمن, وغيرها من أمثلة لم تُسجل فيها فروق بين الحزبين الديمقراطى والجمهوري, فقد كان هذا البعد أحد السمات الرئيسية لسياسة أمريكا الخارجية وليس حزب من حزبيها الكبيرين.
لا يمكن إنكار أن هذا الأسلوب كان نقطة ضعف خطيرة فى هذه السياسة أتى بنتائج كارثية على الفكرة ذاتها, فاستخدام القوة لبناء نظم ديمقراطية ليبرالية آل إلى عكس الهدف وبدت أمريكا كقوة استعمارية جديدة تُغلف أهدافها الإستراتيجية فى السيطرة على مصادر الثروة والطاقة فى الشرق الأوسط بمقاصد فكرية مثالية.
من هنا, ولكى تكتمل الصورة, فلابد من الإشارة إلى أن أزمة الليبرالية على المستوى الدولى لا تقتصر فقط على تزايد دور القوى غير الليبرالية (روسيا والصين) ولكن كان للغرب أيضا دوره السلبى فيها, سواء بحكم السياسات والوسائل الفاشلة فى فرض الليبرالية, أو بسبب تصاعد التيارات اليمينية المتطرفة, والتى امتدت من بعض دول أوروبا إلى الولايات المتحدة ذاتها فى عهد الرئيس ترامب, ولذلك لم يكن مفاجئا أن يُسقط أجندة الحريات من حساباته بل ويتخلى عن كل ما يتعلق بمبدأ أو قاعدة من القواعد المتعارف عليها فى المجال السياسي, فى الوقت الذى تظل فيه أوروبا فى مجموعها أقل حضورا على المستوى الدولي, إما لانقساماتها فيما بينها أو بفعل أزماتها الاقتصادية.
لكن مع جميع هذه التداعيات ورغم تراجع الليبرالية فى النظام العالمي, إلا أن ذلك لا يعنى أن منظومة القيم الليبرالية فقدت مصداقيتها باعتبارها تمثل واحدا من أرقى مذاهب تطور الفكر الإنسانى لتمحورها حول فكرة الحرية, ولا يضاهيها فى ذلك أى نسق فكرى آخر.
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع