التحركات العسكرية الأخيرة للولايات المتحدة والتى تتخذ منحى متصاعدا بعد إرسال حاملة طائراتها الضخمة أبراهام لينكولن إلى مياه الخليج, هى فصل جديد من فصول صراعها المفتوح مع إيران, ولكنه الأكثر شدة وضراوة بعد مرحلة تشديد العقوبات المفروضة عليها, والتى وصلت إلى ذروتها ودخلت حيز التنفيذ هذا الشهر, إذ تنُذر بصدام واسع محتمل قد تشتعل على أثره حرب إقليمية ستدور حتما على الأراضى العربية, إذا ما خرجت الأمور عن السيطرة فى لحظة ما غير محسوبة, وستتعدد أطرافها انتصارا لهذا الطرف أو ذاك, لأنها فى النهاية لن تكون مقصورة على جبهتين أمريكية وإيرانية وإنما وبنفس الدرجة ستضم قوى دولية وإقليمية لكل منها مصالحها ومشاريعها المناقضة لبعضها البعض, لتضع الشرق الأوسط برمته على أعتاب حرب كبرى. قد لا تكون هذه هى المرة الأولى التى ترسل فيها واشنطن نفس الحاملة إلى المنطقة فقد حدث ذلك فى 2010 ردا على تهديدات مماثلة لتلك التى أطلقتها طهران أخيرا بإغلاق مضيق هرمز الذى يُعد من أهم الممرات المائية فى العالم وشريانا رئيسيا للملاحة الدولية, بل المنفذ البحرى الوحيد لبعض الدول الخليجية, لكن الفارق الذى يجعل التحرك الأخير ليس كسابقه أنه يأتى فى ظل مواجهة صريحة وعنيفة بين الجانبين بعد أن ظلت العلاقة بينهما تراوح المنطقة الرمادية منذ اندلاع الثورة الإسلامية 1979 تتأرجح ما بين المهادنة والاحتواء من ناحية, والحروب بالوكالة من ناحية أخرى, والأخطر أنه قرار نابع من إدارة أمريكية يمينية لا تعرف سوى لغة القوة للتعامل مع خصومها, وهناك بين صفوفها من يتحمس لفكرة التدخل المباشر للإطاحة بالأنظمة التى تنعتها بـالمارقة وفى مقدمتها بالطبع النظام الإيرانى, وهو نهج ليس ببعيد عن مستشار ترامب للأمن القومى جون بولتون ووزير خارجيته مايك بومبيو الذى تزامنت زيارته لبغداد بوصفها ساحة نفوذ إيرانية بامتياز, مع استعدادات بلاده العسكرية وهى زيارة لا تخرج عن كونها نوعا من الإنذار المبكر لها لتحييدها فى أى مواجهة عسكرية محتملة مع طهران, لكن السؤال هو لماذا تحظى الأخيرة بكل هذا الاهتمام الآن والرغبة فى حسم الصراع الطويل معها؟
الهدف المعلن والتقليدى لإدارة ترامب مثلما كان تاريخيا هو ردع إيران لضمان التدفق الحر لصادرات النفط وتأمين المعابر البحرية الحيوية للاقتصاد الدولى من مضيق هرمز وباب المندب إلى قناة السويس, وطمأنة حلفائها وشركائها الرئيسيين فى المنطقة على جاهزيتها للتصدى لأى سياسة عدوانية من قبل الجمهورية الإسلامية, وتأكيد أن الخليج مازال يمثل مصلحة قومية وأمنية أمريكية قصوى لم تتغير, وكل ذلك صحيح ولكنه ليس نهاية المطاف فهناك أيضا سياساتها الإقليمية التى تسعى لتوسيع نفوذها وسيطرتها على العديد من الدول من العراق إلى لبنان وسوريا واليمن وصولا إلى حماس الفلسطينية, والأخطر هو تبنيها مشروعا أيديولوجيا تسعى من خلاله إلى تثوير منطقة الشرق الأوسط, على النقيض من الدول الإقليمية الكبيرة، وفى مقدمتها السعودية ودول الاعتدال العربى التى تعمل على العكس من ذلك, أى الإبقاء على الأوضاع الراهنة ضمانا للاستقرار, بعبارة أخرى إيران فى أعين الغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا تتصرف وكأنها حركة ثورية وليست دولة, وأنه بحكم هذه الصفة تضم تحت لوائها الحركات والتنظيمات والميليشيات المسلحة التى تتبنى مشروعها الإقليمى, وتطبقه على أرض الواقع, وإذا كانت هذه الحقيقة ليست جديدة على اعتبار أنها مستقرة فى السياسة الإيرانية منذ سنوات طوال, إلا أن الجديد هنا يتعلق بالإدارة الأمريكية الحالية التى تحمل بدورها مشروعا شاملا للشرق الأوسط تسميه الخطة الأمريكية للسلام والمعروف إعلاميا بصفقة القرن, وهذا المشروع يصطدم حتما بكل ما يمت بصلة للأفكار الثورية أو العمل المسلح أو إشاعة الفوضى أو تجاوز دولة ما لحدودها الجغرافية بحيث تصبح عقبة أمام إقرار المشروع الأمريكى, فالترتيبات الإقليمية التى تستلزمها هذه الصفقة تتعارض مع السلوك التوسعى للدولة الفارسية, أو بمعنى أصح أن جانبا مهما من هذه الترتيبات يستهدف تقويم سلوكها وتعديل سياساتها الإقليمية, لتنكمش داخل حدودها, وهذا يفسر توقيت التصعيد الحالى معها, إذ ليست مصادفة أن تتواكب تلك التحركات العسكرية الأمريكية فى الخليج مع تصريح الإدارة بقرب الإعلان عن صفقة القرن بعد انقضاء شهر رمضان.
الواقع أنه لم يعد أمام القيادة الإيرانية الكثير من الخيارات, فتصريح أحد مسئولى حرسها الثورى, بأن أمريكا لا تقوى على مواجهة إيران عسكريا, يصعب أخذه على محمل الجد, فى ضوء توازن القوى الذى يحسم الأمر قطعا لمصلحة الأولى, فليست هناك مقارنة أصلا بين قدرات الطرفين المادية والعسكرية, كما أن الأوضاع الداخلية للأخيرة لا تترك لها فرصة كبيرة للمقاومة فـتصفير صادراتها النفطية بعد أن كانت مبيعاتها من البترول تصل إلى مليون ومائتى برميل يوميا سيخنق بالضرورة اقتصادها المعتمد بشكل رئيسى على هذا المورد الطبيعى, كما أن أوضاعها السياسية ليست بأفضل حالا مع تزايد المعارضة للنظام وهو ما دفعه أخيرا للشروع فى إجراء قدر من المصالحة واعتزامه الإفراج عن بعض سجناء الرأى أو رموز تلك المعارضة لتقوية جبهته الداخلية, أما رهانه الخارجى فيتلخص فى لعبة كسب الوقت, تماما مثلما فعل بعد انسحاب الولايات المتحدة المنفرد من الاتفاق النووى معها, وكان تصوره أن الشركاء الأوروبيين الذين فضلوا البقاء فيه سيقفون فى وجه العقوبات الأمريكية, ولكن ذلك لم يحدث بل إن إحكام الحصار على نظام الملالى دفعه للتصعيد من لهجته التهديدية بشأن الاتفاق ليُعلن أن بلاده لن تلتزم ببعض بنوده, ما حدا بالرئيس الفرنسى إلى الرد الفورى عليه, مؤكدا أنه سيفقد الشريك الأوروبى حال تنفيذه هذا التهديد.
لا يبدو أن كسب الوقت سيُجدى نفعا مع الإدارة الأمريكية المصممة على تطبيق أجندتها فى الإقليم, وقد يُعاد انتخاب ترامب لفترة رئاسية ثانية, وهو الأرجح إلى الآن, وبالتالى قد تلجأ إيران كخيار أخير إلى استهداف مصالح الولايات المتحدة وحلفائها الإقليميين عبر وكلائها فى المنطقة, وهذه سياسة حافة الهاوية التى قد تُشعل الحرب ولن تكسبها طهران ليكون استسلامها للشروط الأمريكية للتفاوض هو طوق النجاة الوحيد.
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع