بقلم : د. هالة مصطفى
مع كل أزمة دولية أو إقليمية تنصرف الأنظار مباشرة إلى موقف الولايات المتحدة، ليس فقط لكونها القوة العظمى المتحكمة فى مسار معظم الأحداث والأزمات، وإنما أيضا بسبب التضارب الشديد فى التصريحات والرسائل السياسية الآتية منها، ولعل الانقسام والتباعد فى المواقف بين أهم مؤسستين تصنعان سياستها الخارجية، الرئيس الممثل للسلطة التنفيذية من ناحية، والكونجرس بمجلسيه النواب والشيوخ المعبر عن السلطة التشريعية من ناحية أخرى، هو أهم مظاهر هذه الخاصية التى تنفرد بها واشنطن، وتدلل على عمق خلافاتها الداخلية. لا شك أن الأزمة الحالية، التى صاحبت مقتل الصحفى السعودى والكاتب فى واشنطن بوست، جمال خاشقجى، تُعد واحدة من أهم هذه النماذج، لما حظيت به من تكثيف وزخم إعلامى، ولكنها بالقطع ليست الوحيدة ولن تكون الأخيرة، بل هى فقط تعيد إنتاج مشهد مكرر قد تختلف حدته من حالة إلى غيرها، لكنه أصبح لصيقا بالسياسة الأمريكية، التى باتت تُربك أصدقاءها قبل خصومها.
فى البداية اتخذ الرئيس الأمريكى دونالد ترامب موقفا صريحا مدافعا عن العلاقة الإستراتيجية التى تربط بلاده بالمملكة، وشرح دوافعه ومبرراته، بدءا من رغبته فى الحفاظ على صفقات السلاح التى تُقدر بالمليارات وتوفر مئات الوظائف للمواطنين الأمريكيين، مرورا بدورها المركزى فى مواجهة التوسع الإقليمى الإيرانى الذى يحظى بأولوية قصوى لدى إدارته، خاصة مع اقتراب اكتمال العقوبات الأمريكية المفروضة على طهران، والتى ستحظر عليها تصدير النفط ، ما يجعل الحاجة إلى السعودية فى سد النقص وضمان تدفق البترول بأسعار مناسبة ملحة، إضافة إلى ذات الدور فى جميع الصراعات والملفات المفتوحة فى الشرق الأوسط من سوريا ولبنان والعراق إلى ليبيا واليمن، وانتهاءً بتصوره عما يمكن أن تقدمه من دعم مالى فى الدفع بعملية السلام الفلسطينية الإسرائيلية أو ما يسميه بـصفقة القرن.
فى المقابل، كان للكونجرس موقف مناهض للرئيس، مطالب بمراجعة مبيعات السلاح وملوح بتطبيق «قانون ماجنتسكى» الذى يتيح للحكومة الأمريكية توقيع عقوبات على أفراد أو جماعات أو دول يثبت تورطها فى أعمال تنتهك مبادئ حقوق الإنسان، وكان قد تم تشريع هذا القانون لينطبق فقط على مسئولين روس ولذلك حمل اسم مواطن روسى هو سيرجى ماجنتسكى، قبل أن يتم تعديله لتُصبح له صفة دولية تسرى على أى مكان، وقد سبق تطبيقه على اثنين من المسئولين الأتراك (وهما وزيرا العدل والداخلية) على خلفية احتجاز أنقرة القس الأمريكى آندرو برونسون قبل أن يتم الإفراج عنه أخيرا.
والسؤال هو: هل هذا التضارب يشكل حدثا عارضا واستثنائيا يختص بحالات بعينها أم أنه يدخل فى صلب الحياة السياسية الأمريكية ويُعتبر جزءا أصيلا من هيكل صناعة القرار فيها؟ الواقع يشير إلى أنه أصبح بالفعل نمطا ثابتا بغض النظر عن اتجاهات الإدارات الأمريكية المختلفة والجالس فى البيت الأبيض، فعلى سبيل المثال أبطل الكونجرس منذ عامين الفيتو الرئاسى الذى استخدمه الرئيس السابق أوباما (الديمقراطى) لوقف إقرار قانون «جاستا» الذى يتيح لأقارب 11 سبتمبر مقاضاة الدول التى ينتمى إليها من قاموا بالعمل الإرهابى، صحيح أن النظام الأمريكى يصنف كنظام رئاسى، إلا أن سلطة الرئيس ليست مطلقة، فهناك توازن دقيق بين السلطات، ومن هنا يسعى كلا الطرفين لانتزاع مساحة أكبر للحركة بحيث لا تطغى سلطة على أخرى. أما ترامب (الجمهورى) فعلاقته دائما متوترة مع الكونجرس، فقد سبق أن فشل فى حمل مجلس الشيوخ ذى الأغلبية الجمهورية على تبنى مشروعه للرعاية الصحية، ليحل محل قانون «أوباما كير»، وكذلك أخفق فى منع الكونجرس من فرض مزيد من العقوبات على موسكو واضطر للتصديق عليها رغم كل ما صرح به من رغبة قوية فى التعاون معها، والشىء نفسه ينطبق على كثير من توجهات الرئيس الخارجية. يعزو البعض هذا التوتر إلى شخصية ترامب التصادمية وافتقاره الخبرة السياسية وخلفيته كرجل أعمال لا يجيد سوى لغة البيع والشراء، وقد يحمل هذا الرأى جانبا من الصحة، ولكنه لا يفسر بالضرورة طبيعة تلك العلاقة المعقدة التى لا تقتصر على الكونجرس والرئيس وإنما تمتد إلى عمق المجتمع الأمريكى ونخبته السياسية. فأمريكا تاريخيا يتجاذبها تياران رئيسيان، مثالى و واقعى وهما متجذران فى مدارسها الفكرية، بحيث من الصعب إلغاء أحدهما، وقد ترسخا إثر حربين عظميين، فبعد الحرب العالمية الأولى، وكانت الولايات المتحدة تتأهب لقيادة العالم كوريث للقوى الاستعمارية الأوروبية القديمة، ساد الاتجاه الأول وقدمت نفسها كدولة كبرى تقوم على القيم والمبادئ فى سياساتها، ولا شك أن الرئيس وودرو ويلسون بمبادئه الأربعة عشر الشهيرة المدافعة عن السلام الدولى وحق الشعوب فى تقرير مصيرها، يُعد من أهم رموز هذا التوجه، لكن على خلاف ذلك تشكل المنهج الواقعى أو البراجماتى، الذى يُعلى من عنصرى القوة والنفعية فى العلاقات الدولية بعد الحرب العالمية الثانية، واعتبر أنصاره أن تلك المثالية كانت مسببة للضعف ومسئولة بشكل غير مباشر عن صعود التيارات الفاشية والنازية وإعطائها الفرصة للتوسع وشن الحروب، وبالتالى فيجب التعامل مع الواقع كما هو، لا كما يجب أن يكون، وأن كل شىء قابل للتغير إلا المصالح، فتبقى هى الحقيقة الوحيدة.
وعلى مدى عقود طويلة وإلى الآن ظل التياران بنفس القوة والحضور فى السياسة الأمريكية، يميل عادة الليبراليون والحزب الديمقراطى ومعظم وسائل الإعلام إلى الاتجاه المثالى، بينما ينحاز المحافظون والحزب الجمهورى إلى الواقعية، وإن حدث تداخل فى كثير من الأوقات بين التوجهين، كأن تُغلّف سياسات القوة والتدخلات العسكرية ولغة المصالح بهدف أسمى، كنشر الحرية أو الديمقراطية، وهو ما أسقطه ترامب من حساباته فواقعيته يعبر عنها دون تجميل، وليس هناك أفضل من وصف هنرى كيسنجر فى كتابه «النظام العالمى» السياسة الأمريكية بأنها «متناقضة متذبذبة بين واقعية روزفلت ومثالية ويلسون» ما يعنى فى النهاية أنها مفتوحة دائما على كل الخيارات، ويصعب فى الغالب التنبؤ بها.
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع