قد لا تكون فنزويلا بلدا يحظى باهتمام كبير فى الأحوال العادية إلا للمعنيين مباشرة بشئون القارة اللاتينية, ولكنها أصبحت فجأة فى بؤرة الضوء على إثر أزمتها الداخلية التى اندلعت أخيرا وتصدرت عناوينها الصحف العالمية ووسائل الإعلام وانقسمت حولها مواقف الدول الكبرى بصورة غير مسبوقة, فتجاوزت بذلك حدودها الجغرافية، ولم تعد مجرد شأن محلى, إذ إن ما تثيره من قضايا سواء فى بعدها الداخلى أو الخارجى يصلح لأن يكون نموذجا لقصة كل الديمقراطيات الناشئة, فالأول يختص بواحدة من أهم قضايا التحول الديمقراطى، وهى شرعية صندوق الانتخابات، والثانى يتعلق بطبيعة النظام الدولى الحالى الذى أعاد إلى الأذهان أجواء الحرب الباردة بحالة الاستقطاب الحادة والتناقضات الأيديولوجية المصاحبة لها.
بدأت الأزمة بإعلان زعيم تكتل الأغلبية فى البرلمان والذى يتولى رئاسته «خوان جوايدو» نفسه رئيسا مؤقتا للبلاد بعد اجتياحها موجة احتجاجات غضب واسعة ضد الرئيس الفعلى نيكولاس مادورو الذى انتُخب لفترة رئاسية ثانية فى مايو من العام الماضى بنسبة 68% واحتدم الصراع ليساند الجيش (باستثناء ظهور مجموعة صغيرة متمردة بداخله) ومعه المحكمة العليا الموالية للنظام, الأخير باعتباره الرئيس الشرعى, وتقف فى المقابل الجماهير وأحزاب المعارضة والمجتمع المدنى مع رئيس البرلمان مؤيدة دعوته بإجراء انتخابات رئاسية مبكرة، السؤال الجوهرى الذى يثيره هذا المشهد ينصرف مباشرة إلى معايير قياس الشرعية السياسية للحاكم, والتى يُجملها البعض فى الصندوق كمعيار وحيد, أى مادام قد جاء عبر الانتخابات فكيف تثور عليه الجماهير ولا تعترف به المعارضة أفلا يُعد ذلك انقلابا على الديمقراطية من وجهة النظر هذه؟
والواقع أن هذا السؤال بالصيغة التى يُطرح بها يبدو مخادعا إلى حد كبير, صحيح أن الشرعية المكتسبة من صندوق الانتخابات هى شرعية حقيقية لا جدال فيها فى كل النظم الديمقراطية العريقة, ولكن النقطة الغائبة هنا هى أن هذه اللحظة الانتخابية تأتى كتتويج نهائى لعملية سياسية متكاملة تقوم على أسس وقواعد حاكمة واضحة ومتعارف عليها, بمعنى أنه تسبقها شروط دستورية وقانونية تُرسخ للتعددية والتنافسية وتكافؤ الفرص للجميع حكومة ومعارضة, كما تضمن وتحمى الحريات العامة والمدنية وحرية وسائل الإعلام, مثلما تحدها إجراءات يجب أن تتسم بالحيدة والشفافية والنزاهة, وفى هذه الحالة فقط تؤخذ الانتخابات كمعيار رئيسى للحكم على التجربة برمتها, أما إذا افتقدت لتلك المقومات مجتمعة, فلا مجال لاعتبارها مقياسا حقيقيا للشرعية التى لا يمكن اختزالها فى مجرد نسب مئوية وأرقام, وكان ذلك تحديدا هو ما انطبق على الرئيس الفنزويلى, الذى اتُهم منذ اللحظات الأولى لإعادة انتخابه بتزوير إرادة الناخبين من خلال ترسانة من القوانين والتعديلات الدستورية والإجراءات التى وضعتها وأشرفت عليها حكومته لمنع أى منافسة فعلية له, ولم يكن القمع السياسى والافتقاد إلى الخبرة والممارسة الديمقراطية هو فقط ما ميز عهد مادورو، وإنما كانت أيضا الأزمة الاقتصادية الطاحنة وتدنى مستويات المعيشة وانتشار الفقر واستشراء الفساد وكثرة الاقتراض الخارجى الذى قدمته الصين بصورة أساسية عنصرا إضافيا أدى إلى تفاقم الأمور، وتزايد نسب الهجرة بين المواطنين وهروب رءوس الأموال, بسبب الإرث الاشتراكى والبيروقراطى الذى خلفه له سلفه, رغم أن فنزويلا عضو الأوبك من الدول التى تمتلك أكبر احتياطى للنفط على مستوى العالم.
باختصار, إن العيب لم يكن فى شرعية صندوق الانتخابات وإنما فيما سبق وتلا تلك العملية وأفرغها من مضمونها, وجعلها شكلية لا تُسفر إلا عن شرعية زائفة، أما الجانب الآخر من القصة فيشير إلى حالة الانقسام الدولى إزاءها والتى وصلت إلى حد المواجهة السافرة, فأمريكا وبريطانيا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا ودول الاتحاد الأوروبى عموما سارعت بالدعم الصريح الفورى لخطوة رئيس البرلمان واعتبرت الانتخابات التى أتت به وبالمؤسسة التشريعية التى يمثلها, هى الانتخابات الوحيدة النزيهة, وهددت بالاعتراف به رئيسا شرعيا دائما ما لم تجر السلطة الحاكمة انتخابات حرة عاجلة لاختيار رئيس جديد, أى رفض كامل من جانبها للرئيس الحالى مادورو الذى اعتبرته «غير شرعى» مطالبة بـ«استعادة الديمقراطية فى هذه الدولة» ووصل الأمر إلى درجة تلويح واشنطن بالتدخل العسكرى, وبالمثل اتخذت معظم دول أمريكا اللاتينية المحورية والمؤثرة وفى مقدمتها كولومبيا والأرجنتين والبرازيل وأوروجواى الموقف نفسه, وهى دول إلى جانب كونها مقربة للغرب, فهى أيضا صاحبة تجارب ديمقراطية يُعتد بها.
وفى المقابل وعلى النقيض من ذلك, وقفت كل من روسيا والصين وهما القوتان المنافستان بشدة للدول الغربية والساعيتان للعب دور سياسى أكبر على المستوى الدولى, إلى جانب «مادورو» لأنه الرئيس الشرعى من وجهة نظرهما, واعتبرتا رئيس البرلمان مغتصبا للسلطة، ونددتا بالتالى بالتدخل الدولى (والمقصود الغربى) فى الشئون الداخلية للدول, وكأن موقفهما لا يُعد وبنفس المنطق, تدخلا أيضا فى هذه الشئون الداخلية, وكما حدث مع المعسكر الأول ساندت بعض الدول اللاتينية مثل كوبا والمكسيك الموقف الروسى ــ الصينى, وكلها دول تحكمها نظم سلطوية.
لا أحد ينكر أن هناك مصالح متضاربة بين الفريقين الغربى والشرقى, وأن لها أبعادها المادية البحتة فى الامتيازات النفطية والاستثمار ومبيعات السلاح إلى جانب الصراع التقليدى على اقتسام مناطق النفوذ فى أرجاء العالم, ولكن اللافت فى الحالة الفنزويلية أن قضية «الديمقراطية» باتت محورا أساسيا بل فى قلب هذا الصراع المعلن والمفتوح, ما يضيف بعدا فكريا أو أيديولوجيا صريحا له, لنُصبح فى مواجهة منظومتين فكريتين متعارضتين يعمل كل فريق من جانبه على اكتساب مزيد من الدول فى صفه على أساس منظومة القيم التى يعبر عنها, وهذا بالضبط ما كان سائدا فى حقبة الحرب الباردة, ولذلك فنموذج فنزويلا مرشح للتكرار فى حالات مماثلة!
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع