بقلم : د. هالة مصطفى
لم تحظ شخصية سياسية أو عامة باهتمام ملحوظ من معظم دوائر الإعلام والصحف العالمية فى الآونة الأخيرة, بقدر ما حظى به ولى العهد السعودى الأمير محمد بن سلمان, الذى اعتُبر الشخصية الأجرأ والأشجع والأكثر ثورية وطموحا فى قيادة عملية تغيير وإصلاح كبرى فى بلاده تُخرجها من أزمنة الجمود والتقليدية إلى عصر المدنية والحداثة والانفتاح على العالم، نظرا للنقلة النوعية المتوقع أن يُحدثها فى المملكة، التى شهدت على مدى شهور قليلة تطورات هائلة ما كان لها أن تقع فى سنوات طويلة، فللمرة الأولى تحصل المرأة على حقها فى قيادة السيارة، ويتم ترشيد ممارسات هيئة الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر, التى كانت تمارس سلطة مطلقة ومتعسفة على الأفراد فى الطرقات والأماكن العامة ويدخل فى اختصاصها كل ما يتعلق بالسلوك والزى وغيرها من أمور مشابهة، وتُراجع المناهج التعليمية لتنقيتها من الأفكار المتطرفة، ويعود الاهتمام بالفنون، فيُفتتح دور للعرض السينمائى وتقام الحفلات الموسيقية وعروض الأوبرا، ويستقبل العاهل السعودى فى الرياض رئيس المجلس البابوى للحوار بين الأديان فى الفاتيكان، وتُعدل قوانين وتصدر قرارات تصب فى نفس الاتجاه الإصلاحى وكلها إجراءات وخطوات غير مسبوقة، إلا أن ذلك لم يمنع بعض الدوائر المشار إليها من التشكيك فى الهدف وراء التحديث الجارى أو القدرة على تحويله إلى واقع مستدام، مثلما فعلت مجلة التايم أخيرا، وجاء الرد السعودى بأن الأمر متروك للزمن لإثبات جديته.
أيا كان الأمر سواء بالمدح أو النقد، فقد باتت عملية الإصلاح فى السعودية هى القضية التى تشغل بال الجميع, ليس فقط لأنها دولة إقليمية كبيرة وشديدة الثراء ولا لمجرد كونها سنية وإنما الأهم لما تمثله من قوة روحية بحكم ضمها للأماكن الإسلامية المقدسة وتملك تأثيرا لا تنافسها فيه دولة أخرى على ما يزيد على المليار مسلم حول أنحاء العالم، وعندما تقود تيارا إصلاحيا فإن أثره سينعكس بالضرورة على المجتمعات الإسلامية.
كثير من الآراء ذهبت إلى دور السلفية فى اجتياح الأفكار والفتاوى المتشددة المنطقة برمتها، مما فتح الباب للتطرف والانغلاق وتعميم تفسيرات فقهية معادية لقيم التنوير والعقلانية والثقافة المدنية الحديثة والاجتهاد، وفى حديث مهم لولى العهد للواشنطن بوست (22/3/2018) قال صراحة إن نشر هذا الفكر كان بطلب من الحلفاء (المقصود الغرب وفى مقدمتهم الولايات المتحدة) إبان الحرب الباردة لمنع تقدم الاتحاد السوفيتى فى العالم الإسلامي, أى أنه كان يُوظف سياسيا، المفارقة هنا أن الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما فى معرض حديثه عن نفس الموضوع لمجلة ذى أتلانتك قبيل مغادرته المنصب، كان قد ألقى بالمسئولية على السعودية وحدها، وكأن بلاده لم تكن طرفا فى هذا الاتفاق.
لم يقتصر حديث الأمير بن سلمان على هذا الجانب الشائك وإنما توقف أيضا عند محطة أخرى تتعلق بالأثر السلبى لنجاح الثورة الخومينية فى إيران 1979 والتى فتحت الباب لمزيد من التطرف والمزايدة عليه من قبل بعض القوى والتيارات السعودية المحافظة، وهو الأثر ذاته الذى خلفه حادث اقتحام الحرم فى نفس العام على أيدى مجموعة من المتطرفين قادهم جهيمان العتيبى، إذ لجأت السلطات وقتئذ، ومن بعدها الحكومات المتعاقبة، إلى سياسة التقييد والتشدد خشية من تكرار مثل هذه الحوادث بدلا من اختيار الطريق الأصعب الذى يقتضى مزيدا من الانفتاح وإقرار الحريات وتكريس الحياة المدنية، بمعنى إنها سارت فى عكس الاتجاه المطلوب، ما مكن أصحاب الآراء المتطرفة من فرض أفكارهم على المجتمع بكامله، والمثير فى الأمر أن دور العرض السينمائى وهى مجرد رمز أو ملمح من ملامح الحياة المدنية كانت موجودة بالفعل إلا إنها ألغيت مباشرة عقب هذا الحادث، الذى كان سببا فى الردة الثقافية التى عاناها السعوديون وأثرت على باقى شعوب المنطقة لحقب متتالية. هذا هو إرث الماضى القريب الذى صرح الأمير مرارا بضرورة الخروج من أسره، وبأنه آن الأوان لمواجهة الفكر المتطرف دون مواربة.
إن أغلب الدول والشعوب تمر بلحظات تحول فارقة فى مسيرتها عندما يكون ثمن الإبقاء على الوضع القائم هو التضحية بالمستقبل بل وأحيانا بالحاضر, فتتوقف لمراجعة تجربتها الماضية لتعييد التقييم وتصحيح المسار, هكذا فعل الاتحاد السوفيتى بعد الإخفاقات المتتالية التى منى بها وأدت إلى تفككه وانهياره قبل أن تعود روسيا دولة قوية يُحسب لها حساب فى ميزان القوى الدولية, وكذلك فعلت دول أوروبا الشرقية وأمريكا اللاتينية والصين, وكان التغيير دوما للأفضل, فمبدأ المراجعة مطلوب فى ذاته ولا يوجد استثناء من هذه القاعدة لأنها السبيل الوحيد للتقدم, ولكن المراجعة لا تتم ما لم يكن هناك اعتراف بوجود مشكلة وحاجة مجتمعية حقيقية وملحة للتغيير, وهذا ما أقدم عليه ولى العهد, الذى يعبر عن طموحات الأجيال الجديدة التى تمثل النسبة الأكبر من المجتمع السعودى الآن, ناهيك عن كثير من المثقفين والمبدعين, الذين لم يجدوا بيئة حاضنة لإبداعهم فى وطنهم و اضطروا للهجرة إلى الخارج, وكذلك كل من يرنو إلى ترسيخ الحريات والحقوق المدنية فى بلده, والتى هى جزء لا يتجزأ من الحياة المعاصرة.
إذن السعودية تقف الآن على أعتاب تغيير كبير ستكون له أصداؤه بالداخل والخارج، قد يرى البعض أن ما اتُخذ من إجراءات ليس كافيا أو أنه على العكس أكثر مما يجب، أو إنه سريع مقابل من يراه بطيئا، وتعدد هذه الآراء هو أمر منطقى وطبيعى، فأى تغيير فى أى دولة لا يكون سهلا فما بالك لو جاء وسط مناخ اتسم لعقود بطابع محافظ، وهذا هو التحدى الرئيسى، فقد يلاقى معارضة بين صفوف النخبة، وقد يستلزم كثير من المواءمات السياسية والتوازنات فى صنع واتخاذ القرار للوصول إلى قدر من التوافق بين مختلف التيارات والقوى السياسية، لكن المهم أنه بدأ ويستحق الدعم من كل الحالمين بمستقبل أفضل خال من التطرف.
نقلا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع