الضربة العسكرية التى قادتها الولايات المتحدة بالتحالف مع كل من فرنسا وبريطانيا, جاءت بعد أيام من التهديدات والتصريحات الأمريكية المتتالية ضد النظام السورى, على خلفية اتهامه باستخدام الأسلحة الكيماوية المحرمة دوليا, والتى استهدفت المدنيين, أعقبتها حرب كلامية مضادة قادتها روسيا, الحليف الأول للنظام, ثم تلتها إشارات متضاربة من الجانبين, فواشنطن على لسان رئيسها قالت إن الضربة قد تكون قريبة جدا أو لا تكون كذلك, وموسكو تحدثت عن قنوات اتصال مفتوحة معها, قبل أن يتحول الأمر إلى استعراض شبه مسرحى من الجانبين لقوتهما العسكرية, بصورة تعيد إلى الأذهان زمن الحرب الباردة ونظام الثنائية القطبية, وسياسة الردع المتبادل وترحيل الحروب إلى أراضى الغير, تجنبا لحرب مباشرة بينهما. ولأن سوريا الآن تشهد حربا أهلية مستمرة منذ ما يقرب من سبع سنوات, وصراعات حادة بين أطراف دولية وإقليمية عديدة, وتتشابك فيها الخيوط وتتقاطع المصالح والأهداف, فليس هناك أنسب منها لتكون ساحة المعركة بين جميع المتصارعين.
لم يكن الاتهام الأول الذى يُوجّه إلى النظام فى دمشق, ولم يكن هو الإنذار الأمريكى الأول أيضا, بل سبق أن نفذت الولايات المتحدة تهديدها وقصفت بالفعل مطار الشعيرات السورى العام الماضى, كإجراء عقابى ولم يزد عن ذلك ولم يغير من الواقع شيئا, لكن التوقعات من الضربة العسكرية هذه المرة تختلف, لأن مواقف كثير من القوى لم تعد كما كانت, والأهم أن فترة الوفاق الأمريكى الروسى قد انتهت.
لاشك أن لروسيا مصالح إستراتيجية مؤكدة فى سوريا, فهى مركز الثقل لسياستها فى الشرق الأوسط, وموطئ قدم لها للمنطقة ككل, سواء لأهميتها وموقعها المطل على البحر المتوسط, أو من أجل إحداث توازن للقوى مع الغرب واستعادة مكانتها كقوة عظمى فى مواجهة الولايات المتحدة, ولن تسمح بخسارتها, وهو ما يفسر دعمها اللامحدود لنظام بشار على جميع الأصعدة.
إيران, وهى الحليف الآخر, تعتبر سوريا أيضا محورا مهما فى مشروعها الإقليمى التوسعى بعد سيطرتها الفعلية على لبنان والعراق وأجزاء من اليمن, وهى فى كل هذه الحالات التى تُغلفها بطابع طائفى شيعى, تسعى لمناهضة المعسكر السنى الذى تقوده السعودية منافستها القوية فى المنطقة, وكسبها للمعركة السورية سيكون نقطة تحول فارقة فى صراعها مع المملكة, لذلك وقفت الأخيرة ضد استمرار النظام السورى, الذى تستخدمه طهران كرأس حربة ضدها, وحتى عندما خففت من مطالبها إزاءه جعلته مشروطا بخروج القوات الإيرانية, وهو شرط يستحيل على بشار تحقيقه.
فى المقابل حاولت تركيا اللعب على التناقضات بين الدول المتحاربة على الأرض السورية, فطالبت فى البداية بإسقاط النظام, ثم بدلت الموقف بالتعاون مع حليفيه الروسى والإيرانى, بسبب دعم واشنطن للأكراد المتعاونين معها فى حربها ضد داعش, والذين تخوض أنقرة الآن حربا ضدهم فى عفرين, قمعا لنزعتهم الانفصالية وخشية من مطلبهم فى إقامة دولة مستقلة مع أقرانهم من الأكراد العراقيين والأتراك, ولكنها عادت أخيرا للاصطفاف بجانب التحالف الغربى.
إسرائيل بدورها, ليست غائبة عن المشهد, فهى ترى فى إيران خطرا حقيقيا على أمنها, وأن تجربة حزب الله اللبنانى ستتكرر فى سوريا.
وسط هذا التعقيد يظل السؤال الجوهرى حول أهداف الضربة العسكرية وأبعادها, وهل فى ذلك تكرار لسيناريو الغزو الأمريكى للعراق؟ هنا تُثار عدة ملاحظات:
إن هذه الضربة نُفذت بإحكام لإحداث خسائر عسكرية, دون الإعلان من جانب التحالف عن أنها حققت أهدافها بالكامل فى القضاء على مخزون الأسلحة الكيماوية, كى يبقى الباب مفتوحا لتكرارها فى أى وقت آخر.
إنها جاءت بتحالف دول ثلاث تمتلك حق الفيتو فى مجلس الأمن لتعطى انطباعا رمزيا بأنها تمثل المجتمع الدولى, وليس فقط الولايات المتحدة، كما جاءت أيضا بمباركة من ألمانيا الدولة القائد فى فى الاتحاد الأوروبى.
توجيه رسالة سياسية واضحة لروسيا, بأنها لن تنفرد بالساحة السورية, ولا تستطيع أن تحرز فيها نصرا حاسما, صحيح أن الرئيس الأمريكى ترامب بدأ عهده بالمهادنة مع بوتين, واعتبر بلاده شريكا له فى حل أزمات الشرق الأوسط, وفى مقدمتها الملف السورى فى إطار تبادل المصالح, إلا أن هذا الموقف تغير بعد تنامى القوة الروسية ليس فقط فى هذه المنطقة وإنما فى أنحاء أخرى من العالم, وجاءت حادثة محاولة اغتيال عميل بريطانيا الروسى الجنسية على أراضيها والتى اتُهمت فيها موسكو, لتُزيد من الدعوات الأوروبية ومعها الأمريكية لتحجيم القوة الروسية, وتغيير الفريق المعاون لترامب, بعد ضم مايك بومبيو وزيرا للخارجية, وجون بولتون مستشارا للأمن القومى, ليس بعيدا عن هذا التوجه الجديد, وقد صرح الأول بأن «السياسة الناعمة تجاه روسيا قد ولت».
الرسالة الثانية لإيران, وهى هدف أساسى لإدارة ترامب وإسرائيل معا, وتكفى الإشارة إلى أن مواجهتها وتقويض نفوذها ومشروعها الإقليمي, من خلال تحالف واسع تقوده واشنطن, هو جزء لا يتجزأ من صفقة القرن جنبا إلى جنب مع خطة السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين, وأن عدم المساس بأى من مواقع روسيا العسكرية بل واطلاعها على توقيت ومكان الضربة, يخفى وراءه رغبة من قوى التحالف بعزل طهران وفصلها عن موسكو, ويبدو أن الأخيرة لن تمانع فى ذلك.
ليس شرطا أن يكون غزو العراق هو النموذج لإسقاط الأنظمة, فهى تجربة لن ترغب الولايات المتحدة فى استنساخها, لتكلفتها العالية ولما تتطلبه من الدخول بقوات برية وكذلك لعدم وجود بديل جاهز يخلف بشار, ويكفى إضعاف نظامه بشكل ممنهج.
إن الحل السياسى -إن وُجد- سيكون مرهونا بتوازن القوى ويكون للجانب الأمريكى الأوروبى دور أساسى فيه وقد يؤدى إلى تغيير النظام بتوافق الأطراف أو بالأحرى بصفقة بينهم, فالنظام السورى قد فقد بالفعل سيادته على أراضيه منذ فترة طويلة.
نقلا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع