بقلم : د. هالة مصطفى
اعتاد الرئيس الأمريكى دونالد ترامب، الذى يقدم نفسه كنموذج لرئيس شعبوى، أن يتجاوز مؤسسات الدولة وأجهزتها ليكون هو صاحب المبادرة فى تغيير الموروثات والتقاليد السياسية القديمة، وليس الحفاظ على الأوضاع القائمة، لذا جاءت أغلب مواقفه وسياساته صادمة مثيرة للصخب مُفجرة للخلافات الداخلية، ومع ذلك يمضى فى طريقه غير عابئ بها، ثم انتقلت الحالة إلى تعاملاته الخارجية إذ بات يفعل الشىء نفسه فيما يتعلق بالمعاهدات والاتفاقيات الثنائية والجماعية وقبل ذلك المنظمات الدولية وفى مقدمتها الأمم المتحدة وما يتفرع عنها من مجالس وهيئات، مقوضا بذلك لكل أسس العمل الجماعى والقواعد التى استقر عليها لعقود طويلة، رافعا شعاره الشهير «أمريكا أولا» ومن هنا جاء خطابه الأخير أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة فى دورتها الـ73 والذى وزع فيه الانتقادات والاتهامات على تلك الهيئات مطالبا بإصلاحها ومهددا بمقاطعتها، متسقا تماما مع رؤيته وأفكاره، التى أصبح لها طابع الاستمرارية ولم تعد مجرد مواقف استثنائية أو عابرة.
لم يكن انسحاب الولايات المتحدة يونيو الماضى من مجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة على خلفية ما صرحت به نيكى هايلى المندوبة الأمريكية لدى المنظمة، بانحيازه ضد إسرائيل واعتياده على النفاق والكذب فى أغلب قراراته المؤيدة للفلسطينيين، هو المثال الوحيد، فقد أعلنت أيضا عدم مشاركتها فى إعلان نيويورك الدولى لتحسين أوضاع المهاجرين واللاجئين الذى تبنته الجمعية العامة بالاجماع، وهو ما أكد عليه ترامب فى خطابه، معللا ذلك بأن الحل هو فى الوصول إلى مستقبل أفضل فى بلدانهم لا فى المساعدة الدولية، وقبلهما أقدمت إدارة ترامب على تجميد حصتها فى تمويل وكالة الأمم المتحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين المعروفة بـالأونروا والتى تصل نسبتها إلى 50% من إجمالى تمويل الوكالة، بزعم أن أسلوب إدارتها المالية معيب فضلا عن عدم توافقها مع سياستها ومشروعها المطروح للسلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، مع ملاحظة أن صفقة القرن التى تشكل الخطة البديلة لمشاريع السلام السابقة لا تتضمن حق العودة للاجئين وإنما توطينهم فى أماكنهم التى لجأوا إليها، والشىء ذاته ينطبق بامتياز على قرارها المنفرد بنقل سفارتها من تل أبيب إلى القدس متجاهلة كل قرارات الأمم المتحدة المتعلقة بوضع مدينة القدس الشرقية منذ صدور قرار 242 عن مجلس الأمن فى أعقاب حرب 1967 وما تلاه من قرارات ذات صلة وصولا إلى التصويت بالأغلبية الكاسحة فى الجمعية العامة برفض تغيير الوضع القانونى للمدينة فور إعلان القرار الأمريكى، وفى سياق متصل جاء انسحابها من اليونسكو العام الماضى، والتى اتهمتها بالتسييس، وبالانحياز ضد اسرائيل خاصة بعد منح الفلسطينيين عضوية كاملة بها، واكتفت ببعثة مراقب يختص فقط بشئون حماية التراث العالمى، وبالقطع لم تلتفت إلى قرار الجمعية العامة قبل ذلك بسنوات باعتماد السلطة الفلسطينية عضوا مراقبا بها فى 2012 مما يعنى الاعتراف بها كدولة أسوة بباقى الدول.
إن منظمة الأمم المتحدة هى وليدة الحرب العالمية الثانية، شكلها المنتصرون فيها أى دول الحلفاء التى هزمت المحور، وأصبحت لهم العضوية الدائمة فى أحد جناحيها الرئيسيين، أى مجلس الأمن (وهو الأهم) والذى يضم الخمس دول الكبار، تدير شئون العالم وتملك قرارات السلم والحرب.
باختصار الأمم المتحدة ليست منظمة حيادية ولم تكن كذلك فى يوم من الأيام ولن تكون، وبالتالى فالحديث عن مدى ديمقراطية القرار فيها أو محاولة تغيير قواعده يُعد مثاليا أو خاليا من المضمون، لأنه ببساطة ضد المنطق الذى تأسست وقامت عليه، أما جناحها الآخر، وهو الجمعية العامة واسعة العضوية، فهى لا تتخطى حدود المنتدى السياسى أو المنبر المفتوح للجميع لعرض مختلف الآراء ووجهات النظر دون أن يكون لقراراتها الصفة الإلزامية.
هكذا استمرت المنظمة الدولية على مر عمرها الذى يزيد على سبعة عقود، مع فارق واحد وهو أن المنتصرين الذين أسسوها وحكموها لم يعودوا متحدين ويمارسون حق الاعتراض ضد بعضهم البعض بحكم المنافسة وصراعات المصالح التى نشبت بينهم، ولكنهم هم أيضا «مجتمعين» الذين لا يسمحون بوجود دخلاء بينهم يتقاسمون معهم السلطة والنفوذ.
إن جانبا مهما من تفسير سلوك ترامب حيال الأمم المتحدة، يرتبط بتكريسه الاتجاه الانعزالى لبلاده وتفضيل النزعة الانفرادية لدرجة أنه أصبح من أكبر منتقدى سياسات العولمة، وقد امتلأ خطابه بالهجوم العنيف على منظمة التجارة العالمية، وهى النموذج الأبرز لتلك السياسات، التى طالما بشرت بها أمريكا منذ انتهاء الحرب الباردة وسقوط سور برلين وتفكك الاتحاد السوفيتى، كخيار وحيد أمام دول وشعوب العالم، وربما كان كتاب الصحفى الأمريكى المعروف توماس فريدمان، الذى صدر بداية الألفية بعنوان «السيارة ليكسس وشجرة الزيتون» رمزا للصراع بين الحداثة الآتية والقديم المرتبط بالجذور، هو أصدق تعبير عن عمق هذا التوجه الذى ساد على مدى ربع قرن، والذى تتنصل منه إدارة ترامب الآن، وليس أدل على ذلك من قوله: إن عقلية العولمة مثلها مثل الاشتراكية تنشر الفساد وتعطل سبل الشفافية والمحاسبة، فهل تقول لها الولايات المتحدة وداعا وتودع معها الأمم المتحدة؟
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع