للصحافة فى مصر تاريخ ممتد يرجع إلى القرن الثامن عشر, أى منذ دخول المطبعة إليها مع الحملة الفرنسية والتى يؤرخ لها ببداية التحديث, وكان انطلاقها هو الحدث الحضارى الأكثر تأثيرا فى عملية التنوير, وارتبطت ارتباطا وثيقا بحركة النهضة والإصلاح فى بدايات القرن التالي, وكانت من أوائل الدول التى عرفت كل أنواع الصحافة, الثقافية والفنية والساخرة والحزبية, بل كانت مصر بمناخها الثقافى المنفتح مقصدا للرواد فى هذا المجال, وقصة إصدار الصحفيين اللبنانيين سليم وبشارة تقلا جريدة الأهرام 1876 مازالت مثالا شاهدا على ريادتها وسط محيطها الإقليمي, حتى أصبحت بحق إحدى أهم مصادر قوة مصر الناعمة.
تعرضت الصحافة المصرية خلال مسيرتها الطويلة لكثير من عوامل الشد والجذب والازدهار حينا, والتراجع أحيانا أخري، بدءا من قرارات التأميم التى شهدها مطلع الستينيات، مرورا بحقبة السبعينيات التى جعلتها فى قلب الصراع السياسي, حيث لم يخل تقريبا قانون من القوانين العامة أو الاستثنائية من مادة أو أكثر تتعلق بها, إضافة إلى تعرض كثير من الكتاب ورؤساء التحرير للعزل من مناصبهم على خلفية انتماءاتهم ومواقفهم السياسية, وصولا إلى التسعينيات, التى كما شهدت طفرة عددية فى إصدار الصحف وتحديدا الخاصة, فقد شهدت أيضا أزمات بين النظام والجماعة الصحفية وقت إقرار قانون «93» لتنظيم الصحافة, حتى انتهى الأمر بالتوافق بصدور القانون الحالى «96» لسنة 1996، ولا شك أن الساحة الصحفية فى المرحلة الراهنة أصبحت أكثر تعقيدا خاصة بعد ظهور الصحافة الإلكترونية وما صاحبها من مشكلات ومخالفات مهنية، ما استوجب إعادة النظر فى بعض القوانين والتشريعات الخاصة بها. فى هذا السياق, يأتى مشروع قانون تنظيم الصحافة الذى وافق عليه البرلمان مبدئيا تمهيدا لإقراره بعد مراجعته من مجلس الدولة, ويُحسب لمجلس النواب اهتمامه بالقانون وفتح المجال للنقاش حوله حتى يخرج بصورة مرضية للجميع, ضمانا لاستقرار العلاقة بين الدولة والمجتمع الصحفي, والتى حتما ستعود بالنفع على الطرفين.
القانون فى مجمله يحمل نقاطا إيجابية, وإن بقيت بعض مواده موضعا للخلاف وأثارت بالتالى ردود فعل سلبية تستحق التوقف عندها لمراجعتها، سعيا لإيجاد أرضية مشتركة تحقق الرضا لمن سيشملهم القانون, دون تجاوز لحق الدولة فى حماية أمنها القومي, وفى مقدمة هذه النقاط :
أولا: ما قيل عن تجاهل وجهة نظر نقابة الصحفيين فى المرحلة الأخيرة من صياغة مشروع القانون, رغم أنه حق أصيل لها بموجب المادة «77» من الدستور التى تنص على ضرورة أخذ رأيها فى القوانين المتعلقة بها.
ثانيا: الجدل المثار حول المادة «19» فى القانون الجديد التى يعتبرها البعض من المواد السالبة للحريات, بدعوى التوسع فى تحديد جرائم النشر والعقوبات المترتبة عليها, واحتوائها على بعض العبارات الفضفاضة التى تحتمل التأويل وتثير لبسا عند تفسيرها, فضلا عن ازدواجيتها مع المادة الدستورية «71» التى تحصر تلك الجرائم فى ثلاث وهى الدعوة للتمييز, أوالحض على العنف, أو الطعن فى أعراض الأفراد, ويُعاقب عليها القانون العام أسوة بباقى فئات المجتمع, ومن ثم فالأمر هنا قد يحتاج إلى ضبط المصطلحات والمفاهيم الواردة بها.
ثالثا: طريقة تشكيل الجمعيات العمومية للمؤسسات الصحفية, أى المادة «35» من مشروع القانون, والتى تقضى بأن يكون رئيس الهيئة الوطنية للصحافة رئيسا لكل هذه الجمعيات فى جميع المؤسسات, وأن يأتى أغلبية أعضائها من خارج المؤسسات فلا يكون للأخيرة سوى ستة أعضاء من أصل سبعة عشر عضوا, بهدف الاستعانة بالخبرات الفنية المتخصصة لضمان ترشيد ورفع مستوى الأداء الاقتصادي, ولكن هناك وجهة نظر أخرى تقول إن هذا المنحى سينزع عنها استقلاليتها التى كفلتها المادة «72» من الدستور، وبالتالى يمكن إعادة النظر فيها لتحقيق نوع من التوازن أسوة بما جرى فى المادة الشبيهة المتعلقة بتشكيل مجالس الإدارات فى مشروع القانون وهى المادة «39» والتى تم تعديلها وأصبح الترشيح للعضوية من صلاحيات رئيس مجلس إدارة المؤسسة باعتماد من الهيئة الوطنية للصحافة.
رابعا: ما يتعلق برفع سن الإحالة إلى المعاش للصحفى من الستين إلى الخامسة والستين, وهى قضية تشكل مطلبا عاما للجماعة الصحفية تكرر طرحها كثيرا, ليس لأن مهنة الصحفى أفضل من غيرها ولكن لأن لها خصوصية وطبيعة تختلف عن الوظائف الحكومية, فهى تدخل فى مجال الأعمال الفكرية والثقافية والإبداعية التى لا يحدها سقف زمنى فى الأساس, و هذا أمر متعارف عليه عالميا ومعمول به حتى فى أكثر الدول المتقدمة, وبالمناسبة منذ أيام قليلة تم تعيين أحد كبار الصحفيين الأمريكيين هو نورمان بيرلستاين البالغ من العمر 75 عاما رئيسا لتحرير صحيفة لوس أنجلوس تايمز بعد بيعها, وسعى المالك الجديد للاستفادة من خبرته العريضة فى رفع أداء ونسبة توزيع الصحيفة, والأمر هنا لا يتعلق بنمط الملكية أى عامة أم خاصة بقدر التأكيد على المعنى والمبدأ السائد فى عالم الصحافة بحكم اعتمادها على الخبرة التراكمية لصاحبها, وإلا لما كانت هناك أسماء لامعة فيها.
المفارقة هنا, أن مشروع القانون فى صيغته الأولية اشتمل على هذه المادة ولكنه جعلها مشروطة بعدم تولى أى منصب أو الحصول على المخصصات المالية المقررة أثناء الخدمة, وأن يكون رفع السن عن طريق مد الخدمة عاما بعام وليس رفع السن تلقائيا إلى الخامسة والستين, ما أفرغها من مضمونها, وكان هذا هو المأخذ عليها حيث كانت المطالبات بتعديلها فى اتجاه الرفع التلقائى لتصبح قاعدة قانونية مجردة أسوة بقانون رفع السن للقضاة تقديرا لمهنتهم الرفيعة وندرة الكفاءات فيها, ولكن بدلا من إعادة النظر فى تلك المادة, لجأ مشروع القانون إلى حذفها تماما, رغم أن هذه المادة تحديدا كانت ستُحدث فارقا فى القانون الجديد كونها تحظى بإجماع آراء الوسط الصحفى بعيدا عن اختلاف الانتماءات الفكرية أو السياسية.
ملاحظة أخيرة, وقد أشار إليها النائب البرلمانى والكاتب الصحفى المعروف مصطفى بكرى ضمن نقاط أخرى مهمة, فى برنامجه «حقائق وأسرار» الأسبوع الماضى, وتختص بالقيمة المادية لمعاش عموم الصحفيين, والتى لا تتعدى الـ «1600» جنيه، وهى مسألة لا تحتاج إلى أى تعليق.
إن المتوقع فى أى قانون جديد لتنظيم الصحافة, هو مراعاة تطلعات أصحاب المهنة سواء الخاصة بالحريات أو تلك المعيشية, مثلما هم مطالبون بالحفاظ على حق الدولة, والوصول إلى حلول توافقية ليس صعبا أو مستحيلا.
نقلًا عن الآهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع