بقلم - وليد محمود عبدالناصر
رحل جلال أمين بعد أن ترك أعمالاً وكتابات أضافت الكثير إلى المكتبة العربية والعالمية في مجالات الفكر والثقافة والاقتصاد والتاريخ وغيرها، كما ترك آلاف التلاميذ في مختلف أنحاء العالم نهلوا من علمه واستفادوا من رؤيته وأثروا من خبراته. وبما أن الراحل كانت له إسهامات في مجالات كثيرة ومتنوعة، حيث اتصف بالموسوعية في المعرفة والشمول في التناول والعمق في التحليل في آن واحد، فإنه من الصعب تناول عطائه في هذه الميادين في مقال واحد، بل نسعى هنا إلى معالجة جانب واحد من عطائه الواسع، وهو رؤيته المتفردة والمتميزة لعلم الاقتصاد من جهة ولدور الاقتصاد في المجتمع المحلي والوطني، بل في المجتمع الإنساني بأسره، من جهة أخرى.
فمن ناحية، وعلى الأقل زمنياً منذ أن سعدت وشرفت بأن أكون أحد طلاب فصوله الدراسية في الجامعة في نهاية عقد السبعينات من القرن العشرين، كان جلال أمين، ورغم كونه أحد أكبر أساتذة الاقتصاد في الوطن العربي على مدار العقود الخمسة الأخيرة، حريصاً على التأصيل لكتاباته الخاصة بتبيان، لطلابه ولعموم الناس، حدود علم الاقتصاد، بتعريفه الكلاسيكي، وتواضع هذه الحدود وعدم تلبيتها لما يصبو الإنسان العادي غير المتخصص في التعرف عليه بشأن حاضره وفرص تحسين آفاق حياته وحياة أولاده في المستقبل أحياناً، وضعف الكثير من المسلمات والافتراضات التي يقوم عليها هذا العلم وعدم الترابط أو الانسجام في ما بينها في بعض الحالات أحياناً أخرى.
وهو كان صاحب رؤية نقدية لعلم الاقتصاد التقليدي الحديث، كما نشأ في الغرب، إذ وجه له انتقادات أساسية تمس جوهر المنطق الحاكم له، وتركيزه على معايير الربحية المادية والمكسب الملموس والمبادرة الفردية، وتجاهله للجوانب غير المادية باعتبارها معايير نوعية يصعب قياسها كمياً في الكثير من الحالات، على رغم أن الكثير من هذه المعايير كانت الأهم من وجهة نظر الراحل. وهو انتقد علم الاقتصاد التقليدي باعتباره عجزاً عن إيجاد آلية تقدير ملائمة لهذه المعايير غير المادية، وبدلاً من أن يعترف بهذا العجز قرر أن يتجاهل هذه المعايير كليةً. وفي هذا الاتجاه كان لجلال أمين مؤلفات مهمة مثل «فلسفة علم الاقتصاد»، «خرافة التقدم والتأخر»، «كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية»، وغيرها من كتب ومقالات باللغتين العربية والانكليزية لها قيمتها ووزنها وتأثيرها، ومنها كتب كثيرة ترجمت إلى الكثير من لغات العالم.
إلا أن نقده الأكبر تعلق بالتعريفات التقنية والضيقة للاقتصاد من جانب ودوره في المجتمع من جانب آخر. فلقد رفض باستمرار المؤشرات المتعارف عليها في الاقتصاد العالمي بشكل عام باعتبارها دليلاً يقينياً مؤكداً لا يقبل التشكيك فيه أو مراجعته أو إعادة النظر فيه على صحة اقتصاد الدولة، ويدخل ضمن هذا الإطار في تصور الراحل مؤشرات مثل حجم الاستثمارات ومعدلات تدفقها، بخاصة تلك القادمة من الخارج، معتبراً على سبيل المثال أن الأهم هو ما إذا كانت تلك التدفقات تسد عجزاً في القطاعات التي تمثل حيوية حقيقية للمجتمع في عمومه وللمواطن العادي على حد سواء. وشمل هذا النقد أيضاً سعي بعض علماء الاقتصاد لإظهار الاقتصاد في شكل معقد للغاية من الناحية التقنية والفنية وتعمد اللجوء إلى جداول ومعادلات شديدة التعقيد، على رغم إمكان إيصال الرسالة ذاتها في لغة مبسطة مفهومة للجميع، المتخصصين وغير المتخصصين، واعتبر ذلك بمثابة محاولات لإبعاد المواطنين العاديين عن فهم ما تتضمنه آليات الاقتصاد من معطيات مهمة تتعلق بحياتهم اليومية ومعاناتهم ومستقبلهم ومستقبل أولادهم على نحو ملموس باعتبار مكونات الاقتصاد من متغيرات وثوابت تؤثر في كل ذلك. وفي بعض الحالات اعتبر أنه ربما يكون هدف تلك المحاولات هو تحويل الاقتصاد نفسه إلى ما يقرب من منطقة محرم على العامة مجرد الاقتراب منها أو التجرؤ على مناقشة محتواها.
ونستطيع القول بقدر لا بأس به من الثقة أن جلال أمين كان يسعى إلى إعادة تعريف علم الاقتصاد وأسسه ومبادئه، ولكن الأهم هو إعادة صياغة دور الاقتصاد فيالمجتمع ككل، سواء المحلي أو الوطني أو الإقليمي أو العالمي، بل إن هناك من ذهب أبعد من ذلك ليقول بأنه كان في واقع الأمر يسعى إلى إرساء معالم «علم اقتصاد بديل أو جديد»، يدمج الكثير من المكونات المتعارف على وجودها في علم الاجتماع داخل السياق العام لعلم الاقتصاد بقصد أن يكون الأخير وسيلة لتحسين الأوضاع الاجتماعية للسواد الأعظم من البشر، خصوصاً في بلدان الجنوب، وأداة لتحقيق العدالة الاجتماعية الغائبة في الكثير من المجتمعات، خاصة مرة أخرى في مجتمعات البلدان النامية. ولهذا كان يفند المؤشرات الكمية المتعارف عليها في علم الاقتصاد التقليدي، مثل الناتج المحلي الإجمالي أو إجمالي الدخل القومي أو متوسط الدخل للمواطن أو غيرها من مفاهيم باتت متعارف عليها ومن المسلم بأنها مفاتيح فهم حركة الاقتصاد وديناميته وقياس مدى تقدمه أو تخلفه. كما سعى إلى تفكيك إشكالية انقطاع الصلة بين معظم تلك المفاهيم وبين معاش البشر اليومي، حيث كان ينظر إلى الكثير منها باعتبارها فارغة من أي مدلول يفهمه الإنسان العادي ويمكن أن يربط بين ما يراه حوله وهذه المعادلات الرقمية التي لا تعني له الكثير. وبالتأكيد لم يكن هذا الموقف نتيجة عجز منه عن فهم الآليات المتعارف عليها في علم الاقتصاد كما هو بزغ في الغرب وانتشر منه، وهو أستاذ الاقتصاد الكبير، بل عن وعي بأن الاقتصاد يجب أن يكون في خدمة البشر العاديين، ومن ثم أن يكونوا قادرين على استيعاب مفرداته والتعرف على اللغة المستخدمة فيه. وأخذ هو نفسه زمام المبادرة في هذا المجال حيث أسهم بالكثير من الكتابات والمؤلفات التي سعى فيها إلى تبسيط المفردات المعقدة المستخدمة من جانب المتعاملين مع المسائل الاقتصادية في شكل احترافي وحرص على إيصال المعاني بسهولة ويسر إلى عقول وأذهان القراء والمتلقين من غير المتخصصين.
وكان جلال أمين يعتبر مثلاً أن من المهمة الرئيسة للاقتصاد هي القضاء على الفقر، وأن أي معدلات نمو اقتصادي مرتفعة تبقى محدودة القيمة، بل وقد تكون معدومة القيمة، لو لم تترجم إلى سياســـات وإجراءات محددة تخفف حدة معاناة الفئات الاجتماعية الأكثر حرماناً وفقراً، سواء من خلال إيجاد فرص العمل التي تتواءم مع قدرات وإمكانات كل إنسان، أو عبر توفير الخدمات الاجتماعية الأساسية الضرورية لكل إنسان وأسرته من تعليم ذي نوعية جيدة ورعاية صحية مناســـبة ووسائل مواصلات آدمية ومسكن يليق بالبشر، وذلك كله من دون مقابل مادي أو بمقابل مادي في مقدور البـــشر العاديين، أو لإعانة تلك الفئات الاجتماعية المهمشة على أعباء المعيــشة والوصول إلى نقطة التمتع بالحد الأدنى الضروري من الحياة الإنسانية الكريمة. فالمعيار الرئيس والمرجعية الأساسية لديه لإصدار تقييم لأي سياسات اقتصادية أو إجراءات نقدية أو مالية أو تجارية كانت دائماً هي مدى القدرة على تحسين حياة البشر، بما يعنيه ذلك من معالجة همومهم ومعاناتهم من جهة وتحقيق أحلامهم وتطلعاتهم في مستقبل أكثر إشراقاً لهم ولأسرهم وذريتهم من بعدهم، من جهة أخرى.
ولن يكون من المناسب اختتام هذا المقال من دون تناول مجال مهم من مجالات الدراسات الاقتصادية كان للراحل فيها باع طويل وتأثير وريادة على المستوى العربي والدولي، وهو الدراسات المتعلقة بالاقتصاديات الخاصة بتحويلات المواطنين بالخارج لذويهم وعائلاتهم في أوطانهم الأصلية والانعكاسات المترتبة على هذه التحويلات، سواء اقتصادياً أو اجتماعياً، حيث تبقى دراسته التي أعدها بشكل مشترك مع اليزابيث عوني في منتصف ثمانينات القرن العشرين حول تحويلات المصريين العاملين في الخارج وتأثيراتها الاقتصادية والاجتماعية علامة بارزة في هذا المضمار، كما أنها هي الدراسة صاحبة السبق في هذا المجال بشمول تغطيتها وتكامل الصورة التي حاولت رسمها وعمق تناولها ومعالجتها التحليلية للقضايا المطروحة، وجاء من بعدها دراسات، سواء خاصة بمصر أو بشعوب عربية أخرى لها جاليات كبيرة تعمل خارج الحدود وتقوم بتحويل مدخراتها إلى بلدانها الأصلية، سرت على دربها واتبعت المنهج العلمي الذي اتبعته دراسة جلال أمين في هذا المقام، واستفادت مما خلصت إليه الدراسة الأولى من نتائج وتوصيات.
وهناك مجالات كثيرة أخرى بجانب ما تقدم كان لجلال أمين إبداعه فيها ومساهماته التي تبقىمعنا وتبقىللأجيال القادمة من بعدنا للتعلم منها واستيعابها والاستعانة بها في فهم ما يدور من حولنا من تحولات وتطورات، سواء داخل حدود الوطن العربي، أو في مجمل بلدان الجنوب أو على الصعيد العالمي بأسره. ويبقى الباب مفتوحاً على مصراعيه لكثيرين ممن قاموا بتحليل بعض هذه الجوانب أو ينوون القيام بذلك أو ممن قد يتحركون مستقبلاً في هذا الاتجاه، وذلك بهدف تعظيم المعرفة والإدراك بعطاء هذا العالم والمفكر الكبير وإبراز ما قدمه على مدار عقود لأمته العربية وعالمه الثالث والإنسانية الرحبة التي انتمى إليها قولاً وفعلاً.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع