بقلم - وليد محمود عبدالناصر
تضاعفت في الأعوام الأخيرة القضايا والحملات، على المستوى الدولي كما على المستوى الإقليمي، التي تندرج تحت العنوان العريض الخاص «الحرب على الفساد»، والتي طاولت في غالبية الحالات ساسة، بل قادة دول، وأعضاء برلمانات وكذلك رجال أعمال بارزين في هذا البلد أو ذاك، وأيضاً شخصيات عامة في المجتمعات المعنية، بمن في ذلك أحياناً مفكرون ومثقفون وفنانون، بالإضافة إلى حالات مماثلة شملت حتى مؤسسات ومنظمات ذات طابع دولي أو إقليمي متعدد الأطراف. كما أن هذه القضايا والحملات أدت إلى ردود أفعال من جانب أطراف محلية أو إقليمية أو دولية، بما في ذلك من جانب دوائر إعلامية، كما من جانب الرأي العام، وأثارت بدورها تساؤلات حول طابعها والغايات المستهدفة من ورائها وهل هي ذات طابع قانوني وحقوقي وقضائي محض، أم أنها انعكاس لمطالب اجتماعية واسعة في مرحلة بعينها وبهدف تلبيتها أو إسكاتها أو استيعابها أو تجاوزها، أم أنها جرت لإظهار الالتزام بمعايير أخلاقية أو تعاليم دينية بعينها، أم أن الأمور تذهب أبعد من ذلك لتكون لها خلفيات أيديولوجية أو تقديرات وحسابات سياسية واعتبارات لها علاقة بمعادلات القوة وتوازناتها في هذا البلد أو ذاك في حقبة أو أخرى.
وموضوع الفساد والحرب عليه لا يندرج ضمن أي عنوان ضيق وحده، فلا يمكن اعتباره موضوعاً قانونياً بحتاً، وذلك على رغم أهمية البيئة القانونية المتوافرة والمحيطة، وطنياً أو إقليمياً أو دولياً، وكذلك التشريعات الموجودة بالفعل أو الجاري إعدادها، كما لا يتم الاكتفاء بالقول بأنه موضوع متصل بالمنظومة الأخلاقية أو العقيدة الدينية السائدة في مجتمع ما، مع أهمية علاقته بالأخلاق وتعاليم الأديان، ربما بأوزان مختلفة تتراوح وتتباين ما بين مجتمع وآخر، كذلك وبالمقدار ذاته لا يمكن أن نتحدث عنه باعتباره فقط موضوعاً مرتبطاً بالثقافة الاجتماعية السائدة لدى شعب بعينه أو أمة محددة، دون إنكار أهمية موقعه من تلك الثقافة الاجتماعية وبدورها موقفها منه، وهو بالضرورة ليس مجرد موضوع ضمن «أجندات» العمل اليومي أو المناورات المعتادة في ما بين الساسة أو الأحزاب أو داخل جدران البرلمانات في هذه الدولة أو تلك، لأن أهميته واستمراريته تتخطىحدود العملية السياسية ومعطياتها وأولوياتها، كما أنه، وبطبيعته، ورغم ارتباطه الوثيق بالأوضاع الاقتصادية السائدة وعلاقتها بحالة ومستوى العدالة الاجتماعية في أي دولة، فلا يمكن قصر تناوله على بعديه الاقتصادي والاجتماعي دون غيره. بل إن موضوع الفساد والحرب عليه يجمع هذه الأبعاد كلها، وربما غيرها أيضاً.
وفي خلفية الحديث هنا، نسترجع الحالات الحية الأكثر ذيوعاً وشهرةً أمامنا والتي حصلت في الآونة الأخيرة أو لا تزال تدور تفاعلاتها أمام أعيننا، ومن أبرزها بدايةً إصدار أحكام بالسجن من قبل محكمة في العاصمة الكورية الجنوبية «سول»، بعد محاكمة استمرت لأكثر من عشرة أشهر، وصلت إلى 24 عاماً على رئيسة كوريا الجنوبية السابقة بارك جيون- هي، وهي بالمناسبة كانت أول رئيسة امرأة لهذه الدولة منذ نشأتها، بتهم متنوعة تأتي تحت عنوان «الفساد»، وهي ثالث رئيس كوري جنوبي سابق يتم إدانته بتهم جنائية، بعد مغادرته المنصب، بعد إدانة كل من تشون دوو-وهان وروه تاي-وو بتهم الخيانة والفساد في عقد التسعينات من القرن العشرين، كذلك فإن سلف الرئيسة السابقة بارك في الرئاسة، وهو لي ميونج-باك، موقوف حالياً في اتهامات بالفساد يحقق فيها المدعون، وهي اتهامات تطاوله وتطاول عدداً من أفراد أسرته وأقاربه. وتتسم قضايا الرئيسة الكورية الجنوبية السابقة بتنوعها، فهي تجمع بين تلقي رشاوى من شركات، وكذلك موافاة معلومات ذات طابع سري بالنسبة للدولة لصديقة شخصية لها ليس لها أي صفة رسمية في الدولة، وتوجيه أجهزة ومؤسسات في الدولة لمعاقبة شخصيات عامة في المجتمع كانت قد وجهت انتقادات لرئيسة الجمهورية السابقة.
وكذلك يوجد الحكم الصادر بحق الرئيس البرازيلي السابق؛ لولا دا سيلفا بالسجن لمدة 12 عاماً، وهو الحكم الذي تعرض بدوره، ولا يزال، لاتهامات، خصوصاً من جانب معسكر أنصار الرئيس البرازيلي الأسبق، وعلى وجه الخصوص من قيادات وأعضاء حزب «العمال» الذي أسسه لولا، بأنه حكم ذو خلفية وأبعاد سياسية يستهدف حرمان لولا من الترشح في الانتخابات الرئاسية البرازيلية المقرر لها تشرين الأول (أكتوبر) 2018، وهو الأوفر حظاً للفوز بها في ضوء ما تظهره آخر استطلاعات الرأي في البرازيل. وامتنع «لولا» عن تسليم نفسه واحتمى بأنصاره وكوادر وقواعد حزبه لفترة بعد انقضاء المهلة الممنوحة له للقيام بذلك تنفيذاً لحكم المحكمة، في إشارة إلى اعتراضه واعتراضهم على ما اعتبروه اتهامات ذات دوافع سياسية بعيدة عن جوهر موضوع الفساد. وتشير هذه الحال تحديداً إلى التلويح بالاتهام، ما بين خصوم، بالفساد كأداة لتحقيق مآرب سياسية وللتوظيف في معارك وصراعات هي في جوهرها مرتكزة على السلطة.
كذلك فإن الرئيس الجنوب إفريقي السابق جاكوب زوما لا زال ماثلاً أمام القضاء في بلاده ويواجه تهماً متنوعة متصلة بالفساد منذ مناصب تولاها قبل رئاسته لجنوب إفريقيا، وذلك بعد دفعه للاستقالة من جانب حزبه «المؤتمر الوطني الأفريقي» الحاكم في ظل منحه مهلة لتقديم استقالته وإلا تعرض للخلع من منصبه.
وهناك أيضاً الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي، والذي تم الكشف أخيراً من قبل مسؤولين ليبيين سابقين عن تقديم الرئيس الليبي الراحل دعماً مالياً ضخماً له لتمويل حملته الانتخابية لمقعد الرئاسة الفرنسية عام 2007، وإن كان الأمر لم يتحول بعد إلى عملية تحقيق قضائية تفضي إلى محاكمة.
ولكن هناك حالات سابقة تضرب بجذورها في التاريخ الإنساني، نظراً إلى أن الفساد مرتبط ارتباطاً عضوياً بنشأة المجتمعات البشرية وتطور التفاعلات بداخلها، ثم تالياً عبر كيفية استخدام السلطة من جهة وبسبل الحصول على الثروات وتراكمها من جهة ثانية وبالعلاقة بين السلطة ورأس المال من جهة ثالثة وكذلك بالثقافة المجتمعية السائدة وكيف تنظر إلى الفساد وما هو تعريفها له، إذ إنه على رغم أنه حدث في السنوات الأخيرة تطورات على الصعيد القانوني الدولي تتعلق بالسعي للتوصل إلى معايير متفق عليها دولياً، أو على أقل تقدير على حدود دنيا مشتركة، خصوصاً بتعريف الفساد ووضع حدود له، إلا أن الخصوصية الثقافية والاجتماعية المحلية والوطنية وشبه الإقليمية والإقليمية لتعريف الفساد ما زالت حاضرة، بل وقوية ومؤثرة بدرجة كبيرة، في هذا التعريف ومحدداته.
وأصبحت محاربة الفساد والسعي للقضاء عليه ومدى النجاح في تحقيق ذلك الهدف أحد المؤشرات المهمة التي يستدل بها على الصعيد العالمي على مدى نجاح دولة أو أخرى في تحقيق التنمية والتقدم بكافة أبعادهما في إطارهما العام من جهة، وتلبية تنفيذ هدف «الحكم الرشيد» من جهة أخرى، بل إنه فاق في بعض التقارير الدولية الدورية التي تعدها مؤسسات عالمية متعددة الأطراف أهمية معايير، كان يتم منحها الأولوية واليد العليا، مثل تلك المتصلة بشكل مباشر بـ «الديموقراطية»، بمعنىإجراء انتخابات دورية أو حرية تشكيل أحزاب على سبيل المثال، وأصبح يقع في مرتبة واحدة مع معايير باتت تعتبر أساسية مثل «حكم القانون» و «المشاركة الشعبية في عملية صنع القرار» و «الشفافية» و «احترام الحقوق والحريات الأساسية للإنسان».
وقد يرى البعض أن قضايا الفساد تتزايد وتتصاعد في وتيرة حدوثها وفي درجة ومدى تعقيداتها بمرور الوقت وبتطور المجتمعات الإنسانية وكذلك تطور التكنولوجيا ومنتجاتها، إلا أنه على الجانب الآخر، فإن هذه التطورات ذاتها، إضافة إلى تزايد الوعي العام بمخاطر قضايا الفساد على المستوى الدولي، أدت إلى تقدم أيضاً في التصدي لهذه القضايا وكشفها ومحاربتها وتعبئة الرأي العام ضدها، من دون نفي ما تقدم ذكره في شأن إمكان توظيف قضايا الفساد لغير الأهداف الأصلية المتوخاة من محاربته، ربما لاعتبارات أيديولوجية أو سياسية أو غير ذلك.
نقلا عن الحياة اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع