بقلم : أحمد الصاوي
قبله كان طابور الشهداء منتظماً حتى عمق تاريخ هذا البلد، ومن بعده واصل الطابور انتظامه، فيما يتأهب كثر لحجز أماكنهم، ليبدو الطابور جسراً تعبر به الأجيال دائماً نحو المستقبل، ويعبر معها الوطن مكملاً رسالة بقائه ووجوده وارتكازه على تلك الأرض.
فى يوم الشهيد، تتذكر الصحف ووسائل الإعلام الفريق عبدالمنعم رياض، الذى استُشهد فى مثل يوم أمس قبل خمسة عقود على جبهة القتال، متصدراً الصفوف فى قلب المواقع الأمامية، وهو قائد الجيش الأهم، الذى تنحصر مهمته فى التخطيط وتحريك الجنود والضباط على الأرض، فإذا به يموت فى وسطهم على مرمى بضعة أمتار من خطوط العدو.
بعد ذلك بسنوات كان قائد أعلى يحتفل بانتصاره وانتصار بلاده وجيشها، فوقف مواجهاً للغدر بصدر مفتوح خالٍ من قميص واقٍ، فنال الشهادة، ربما ليتحدد بوضوح من خلال مسيرة القائدين مصدرا الخطر والتربص، اللذان يحيقان بهذا الوطن، ويجدر أن نبقى دائماً منتبهين لهما، سواء كان العدو قادماً من الخارج يستهدف الأرض والإخضاع، أو ذلك المتوغل من الداخل يستهدف كذلك إخضاع مَن على الأرض.
طوال مسيرة وطنية طويلة لهذا الجيش لم يبخل على بلاده بقائد أو ضابط أو مجند، وطوال ذات المسيرة لم يبخل الشعب على بلاده بتضحيات وشهداء تحملوا كذلك كل خطر، وصعدت أرواحهم مع تلك الأرواح الحية عند ربها، شيوخاً وشباباً ونساء ورجالاً وأطفالاً، عمالاً ومهندسين وموظفين وتلاميذ ورجال شرطة، ربما سجلتهم سجلات الحروب فى تلك التوقيتات أرقاماً للضحايا، لكن الشهادة ومعناها وما فيها من تضحية تبقى قائمة ومتجسدة.
ومع دخول مسيرة هذا البلد مرحلة مواجهة العدو المتخفى فى الداخل، قدم هذا الشعب فى مراحل أولى من رجال شرطته وأبنائه المدنيين الكثير من الشهداء، مجندين وضباطاً وعناصر شرطية، قضت أجمل سنوات العمر تطارد الخطر القاسى فى مزارع القصب بالصعيد وفى الصحراوات المتاخمة لشريط النيل وفى قلب المناطق الشعبية، خلال فترة لم تُسجَّل بعدُ بنزاهة تضحياتها وجهدها، امتدت فى عقدى السبعينيات والثمانينيات حتى أوائل التسعينيات، وفى هذه المدة كان الشهداء المدنيون كذلك يواجهون مصائرهم القادمة من حقائب مجهولة على المقاهى أو فى محطات الأتوبيس، لم تكن هناك فوارق فى العدو والاستهداف والمصير بين الشيخ «الذهبى» والعميد شكرى رياض والدكتور «المحجوب» والطفلة «شيماء».
تماماً كما كان العدو واحداً والاستهداف والمصير بين رجال الجيش والشرطة فى مواقع كثيرة بسيناء والصحراء الغربية، ومعهم المستشار هشام بركات و«قويدر»، ابن سيناء، والطفل «فارس»، ابن البواب، وأسماء كثر تعددت فيها الخلفيات المهنية والاجتماعية للشهداء.
فى يوم الشهيد، آن لنا أن نتذكر صاحب كل تضحية وكل مَن أدى واجباً كان ثمنه حياته، وكل مَن دفع حياته ثمناً لانتفاض هذا البلد ضد ما يحيق به من خطر، وإذا كان البرلمان قد انتهى من قانون رعاية أسر الشهداء دون أن يفرق بين شهيد عسكرى وشهيد مدنى، أتمنى أن يمتد أثر القانون الطيب إلى كل الشهداء، غير مقتصر على حقبة السنوات السبع الأخيرة.
وإذا كان لى أن أقترح مع هذا القانون، فالأهم هو إطلاق مؤسسة رسمية للشهيد، تتولى الحصر والتسجيل والتوثيق والتنسيق والمتابعة وتوجيه الدعم، تماماً كجمعية المحاربين القدماء وضحايا الحرب.
هذا وطن غنى بشهدائه السابقين، وبالجاهزين للحاق بمَن سبقوهم، مُقبِلين غير مُدبِرين، وأضعف الإيمان أن نتذكرهم كلهم ونخصهم بالدعم والتكريم والتأبين والدعاء، لا نفرق بين أحد منهم، وهم جميعاً عند ربهم يُرزقون.
نقلاً عن المصري اليوم القاهرية