قبل سنوات وسنوات حين كان لنادى «غزل المحلة» لكرة القدم فريق مرعب يخشاه الجميع، خصوصاً على ملعب شركة مصر للغزل والنسيج التاريخى، كنت أشاهد مباراة بين زعيم الفلاحين ونادى الزمالك، فى وقت كانت جماهير المحلة لا تقبل الهزيمة وتطمح فى الفوز على أى فريق. وقتها تقدم الزمالك بهدف حتى اقتربت المباراة من نهايتها، وتحمل الجهاز الفنى للفريق سيلاً من الشتائم المفزعة من الجماهير الغاضبة من الهزيمة، لكن الفريق المحلاوى نجح فى تسجيل هدف التعادل، وقبل أن ينتهى الوقت الأصلى أضاف الهدف الثانى، ما جعل مدرب الفريق يستدير للجماهير التى كانت تسبه قبل دقائق، ويرد عليها بكل ثقة وعنجهية وهو يتهمها بعدم الفهم فى كرة القدم، ولسانه يصرخ: «دى كانت خطة يا جهلة»!!
ما علاقة هذه الحكاية عن كرة القدم بالدواجن التى انخفضت أسعارها فجأة وبنسبة كبيرة جداً فى وقت لم يشهد المصريون فيه أى انخفاض فى سعر أى سلعة صعدت لأى سبب حتى لو كان تلافى الأسباب المعلنة لغلائها سابقاً؟
العلاقة أن الحكومة حاولت أن تفعل مثل مدرب الكرة، وتدعى أن خفض أسعار الدواجن يمثل نجاحا لخطة حكومية ما تستهدف تخفيف العبء عن كاهل المواطن المطحون وما إلى ذلك من كليشيهات متداولة.
هل كان إذاً فى الأمر خطة؟ وهل قامت الحكومة فجأة بإغراق سوق الدواجن وبيع سلعة بأقل من تكلفتها وتحمل الفارق دعماً للمواطن، وسعياً لضبط الأسواق وتطويع الأسعار المنفلتة وترشيدها.
الحقيقة أننى أتمنى كما يتمنى كل مواطن أن يكون لدى الحكومة سياسة كتلك، لكن البيانات الحكومية التى خرجت للرد على شائعات ومحاولات اصطياد وتسييس، ربما ردت على المتربصين لكنها أيضاً نفت من حيث لا تدرى أن يكون الانخفاض حاليا جزءا من خطة أو منهج، وإنما مجرد مصادفة اضطرارية، دفعت «تاجراً» حتى لو كان الحكومة ذاتها لطرح بضاعته بأقل من تكلفتها إنقاذا لما يمكن إنقاذه من ثمنها، لأن تلك البضاعة التى كانت قيمتها قبل شهرين وثلاثة 27 جنيهاً، وأصبحت اليوم 15، ستكون صفراً بعد شهر واحد على الأكثر.
وأنت تقرأ الموضوع- الذى لا يخلو من فوائد- ستجد مجموعة من الحقائق بعيداً تماماً عن أرقام المنتجين والمستوردين وجدل أصحاب المصالح والأطراف المختلفة.
أولاها أن الحكومة استوردت شحنة كبرى من الدواجن قبل أشهر تنتهى صلاحيتها فى مارس القادم، وطرحت جزءا منها بهامش ربح بسيط فى المجمعات الاستهلاكية والأسواق بسعر يتراوح بين 25 و27 جنيهاً للدجاجة الكيلو معفاة من الجمارك، هنا عملت الحكومة كما تقول على سد الفجوة بين الإنتاج المحلى والاحتياج، لكنها استخدمت قدراتها فى سد العجز وليس ضبط السعر، بدليل أنها لم تبع الدجاجة بأقل من تكلفتها، ولم تتحمل عن المواطن أى فوارق فى التكلفة باستثناء حرمان الخزانة العامة من رسوم الجمارك على هذه الشحنة.
لماذا لم تطرح الحكومة كل الشحنة مرة واحدة فتخلق عرضاً كبيراً يوازن الطلب أو يزيد عليه؟
لأن ذلك يعنى إغراق السوق وبالتالى انهيار الأسعار، والإضرار ليس فقط بالمنتجين المحليين، وإنما بالاستثمار الحكومى ذاته الذى سيتكبد خسائر كبيرة فى هذه الصفقة، حتى لو كان الأمر سيصب فى مصلحة المواطن الذى سيحصل على سلعة رخيصة وجيدة.
ما هو المتغير الذى حدث إذن؟
أن الوقت داهم «التاجر- الحكومة» واكتشف أن ما بقى من شحنته صلاحيته قاربت على الانتهاء، وبالتالى تحتاج إلى تصريف سريع، وهذا التصريف السريع لا يمكن حدوثه بغير خفض السعر بشكل جاذب وتحمل جزء من الخسارة، بدلاً من تحمل خسارة كاملة فى أول مارس حين تنتهى الصلاحية وتصبح كل دجاجة بقيت فى هذه الشحنة بلا قيمة.
لكن لأنها الحكومة وتملك أبواقاً إعلامية ودعائية يمكن لها أن تقدم الأمر باعتباره مواجهة حكومية شجاعة لغول الأسعار، وتفكيكا للاحتكارات، وضربا للتجار الجشعين، وما إلى ذلك من عبارات حماسية سياسية ترويجية يمكن أن تخفى الأسئلة المهمة التى تستحق أن يجيب عنها الدكتور على المصيلحى، وزير التموين،
فالاعتراف بأن هذا الخفض مؤقت، لحين انتهاء الشحنة أو انتهاء صلاحيتها، خير من ترسيخ اعتقاد لدى المواطن بأن الحكومة تملك خفض الأسعار بهذا الشكل ولديها آليات لم تستخدمها ولا تستخدمها ولن تستخدمها مستقبلاً، كما تفتح هذه المناسبة الباب لمناقشة ثقافة التخزين عند المصريين، التى تستحق من الحكومة جهداً توعوياً لتغييرها باعتبارها مسؤولة عن قدر من الارتفاع فى الأسعار، أثبتت تجربة الدجاج أن انعدام فرصة التخزين يمكن أن تجبر الحكومة ذاتها على بيع الغالى رخيصاً!.
نقلا عن المصري اليوم القاهرية