لم تقطع هذه المنطقة خطوة واحدة للأمام فى اتجاه الحداثة والعصرنة والتطور الحضارى دون إرادة سياسية، حتى ولو كان هذا التطور يدعمه أى شكل من الحراك الاجتماعى المستنير يبقى دائماً فى حاجة إلى احتضان سياسى من القائد صاحب الأمر.
هذا ما جرى فى مصر طوال محطات تاريخها المشرق منذ عهد الفراعنة حتى الآن، حيث ظل الفارق بين فترة وفترة هو نظرة الحاكم ورؤيته وطموحه وإرادته، حتى وإن تشابه المجتمع وظروفه ونخبته بين الفترتين.
نقل «الباشا» محمد على مصر من حال إلى حال، بإرادته ووعيه قبل أى شىء، حتى لو كانت هذه النقلة تصب فى صالح مشروع شخصى لتأسيس دولة قوية يورث حكمها لذريته، لكن مصر كلها والمنطقة استفادت من تلك النهضة والتنمية الشاملة التى امتدت إلى تنظيم الاقتصاد وتحديث التعليم والصحة والصناعة والكفاءة العسكرية، وفتح الآفاق أمام الثقافة بتوازٍ مذهل.
كان «الباشا» جزءاً من النظام القديم، حتى لو كان وصوله للسلطة حدث على أكتاف احتجاج شعبى واختيار من النخبة، لكن إصلاحاته حتى ما قبل الصدام مع السلطان العثمانى ظل إصلاحاً من الداخل، استفادت به كذلك الحكومة المركزية فى الأستانة واستقوت به فى مواقع كثيرة.
عادت التجربة للتوهج مع الخديو إسماعيل كذلك من داخل ذات النظام وبعد تدهور مع حاكمين تاليين للباشا، حين امتلك إرادة ورؤية وحلماً فأعان نخبة كانت نتاج مشروع مؤسس الدولة التحديثى على تحديث المجتمع، حتى امتلك ريادته الثقافية والحضارية الكاملة فى المنطقة كلها واكتسب النظام السياسى شكله الدستورى بتعزيز الحياة النيابية.
وبشكل مماثل، كان التغيير الكبير فى مصر اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً وثقافياً بعد يوليو 52 يمثل إرادة عبدالناصر ورؤيته للإصلاح وما آمن به من انحيازات، وكذلك ما فعله أتاتورك فى تركيا، حتى وإن ظل مشروعه يتفاعل فى المجتمع ويتحرك ويحاول أن يجد مكاناً لتغيير المجتمع، إلا أن وجود زعيم بثقل أتاتورك يملك ذات القناعات سهّل عملية التغيير والتحديث ومنحها طاقة كبرى ونفوذاً هائلاً وقدرةً على الترجمة على أرض الواقع.
حتى فكرة إحياء الدولة السعودية وتوحيد أرض الجزيرة فى كيان واحد غير مفتت اعتمدت على حلم ورؤية وإرادة الملك عبدالعزيز آل سعود، الذى نقل كذلك بإرادته تلك منطقة الجزيرة من حال إلى حال، وفق مشروع له جذور راسخة فى تلك الأرض.
من هذا السياق لا يمكن أبداً اختزال وجود الأمير الشاب محمد بن سلمان فى موقعه الحاكم داخل النظام السعودى باعتباره ترتيباً عائلياً تقليدياً فى العائلة الحاكمة، أو شأناً سعودياً خاصاً، وإنما يتعزز مع زيارته الحالية للقاهرة اليقين بأن الرجل يمثل سعودية جديدة تماماً، يوفر لها الأمير محمد الإرادة الكاملة لتتشكل، ويعبّر عن إرادته تلك ويروج فى كل اتجاه، ليصنع لنفسه وجوداً فى تاريخ المنطقة يشبه من سبقوه من حكام إصلاحيين امتلكوا الإرادة والرؤية لنقل شعوبهم والمنطقة من حال إلى حال.
تستطيع أن تقول إن تأسيساً ثانياً للدولة السعودية يتشكل على يد حفيد الملك المؤسس، مثلما أعاد الخديو إسماعيل تأسيس الدولة العلوية وتجديد مشروعها.
الحفيد السعودى ينقل بلاده مباشرة إلى اقتصاد ما بعد النفط، ويعزز تغييرات اجتماعية هائلة بمعايير المجتمع السعودى فيما يخص المرأة والثقافة والفنون وصناعة الترفيه، ويستثمر تلك الإرادة فى إحداث تغيير كبير فى المفاهيم الدينية، سواء فى استعادة نصوص الدين من مختطفيها المتشددين، أو الانفتاح التاريخى على القادة الروحيين للأديان الأخرى بلقاءات غير مسبوقة، سواء مع البطريرك المارونى فى لبنان، أو البابا تواضروس، رأس الكنيسة المصرية المهمة للأرثوذكس الشرقيين فى العالم كله، أو مرجعيات شيعية فى العالم كله.
قيمة هذا التغيير والتحديث فى تأثيره فى المنطقة كلها، ومحاربة ثقافة التشدد والتزمت ووقف تصديرها للعالم، وخلق أفق جديد للنظام السعودى يساعده على الاستمرار مواكباً للحداثة والعصرنة التى لا تلغى هوية المكان وخصوصيته، وإنما تساعده على انفتاح إيجابى وشراكة حقيقية مع العالم.
يحدثك البعض عن محمد بن سلمان كصاحب مشروع شخصى يتمثل فى تعزيز ملكه المتوقع، وحماية حكم عائلته مع انتقال السلطة فيها إلى جيل الأحفاد، وكل ذلك حقٌّ مشروع، لكن الأهم أن اكتمال تجربته تلك سيعود بالنفع على المنطقة والعالم كله كما عادت أحلام حكام كثيرين على مسيرة التطور الحضارى والتنوير فى المنطقة كلها، لذلك تجد الرهانات الكبيرة عليه من أولئك الذين يتمنون حدوث تغيير إيجابى حقيقى فى المنطقة، بإصلاح مأمون ومطمئن وغير منفجر، والرهانات الكبيرة أيضاً على إخفاقه أو إفلات الأمور منه ممن لا يرون إلا الفوضى حلاً وبديلا..!
نقلًا عن المصري اليوم القاهرية