بقلم - هالة العيسوي
الظروف والملابسات التي صاحبت احتراق متحف ريو دي جانيرو تثبت أننا والبرازيل »إخوات» من حيث الإهمال والفوضي وعدم التحرك قبل وقوع الكارثة برغم التحذيرات المسبقة التي تطلقها الجهات المعنية وقصور الأدوات والإمكانات. المطالع لما تناقلته وكالات الأنباء عن تحذيرات المسئولين للسلطات البرازيلية طوال عام كامل من احتمال وقوع كارثة بالمتحف لكنها كانت تكتفي بإخفاء العيوب بالطلاء الخارجي حتي وقعت الواقعة؛ يتأكد من تآخي القاهرة وريو دي جانيرو دون اتفاقية تآخٍ ولا يحزنون.
الغريب أن مثل هذه الكوارث لا تصيب إلا مراكز الثقافة في دول العالم الثالث مهد حضارات الإنسانية ومخازن ذاكرتها، في حين أن دول العالم الأول تولي اهتماما بالغا وحرصا أكيدا علي الحفاظ علي تلك الكنوز وهي ليست لها، وتعرضها بأقصي معايير التأمين.
ما يهمنا علي وجه الخصوص في هذه الكارثة الأخيرة التي تصيب ذاكرة الإنسانية عموما في مقتل هو آثارنا المصرية التي احترقت بداخل المتحف القومي بالبرازيل والتي مازلنا لا نملك أي بيان رسمي دقيق عن مواصفاتها وأسمائها اللهم إلا أنباء عن احتراق 700 قطعة مصرية. وحسب ما نقله الأستاذ فاروق جويدة في عموده بالأهرام عن المواقع الإخبارية فإن من بين مقتنيات المتحف القناع الذهبي لبطليموس الأول وهو من الذهب الخالص بخلاف تمثال للإله آمون ومومياء لأحد كهنة آمون، وأخري لإحدي أميرات مصر في الحقبة الرومانية وتمثال سيوكاري أحد حكام مصر في الدولة الوسطي وهو ما يعني أن المتحف احتوي علي قطع من حقب تاريخية مصرية مختلفة لا تقدر قيمتها التاريخية والثقافية بثمن ناهيك عن قيمتها المادية.
أما وقد وقعت الكارثة - ولا نظن أنها ستكون الأخيرة من هذا النوع الذي يلتهم كنوزا تاريخية وإنسانية تهم البشرية - فمن الضروري التيقن من امتلاكنا لحصر شامل لآثارنا في الخارج مع وجود توثيق كامل لها سواء بالتصوير أو بتوفر نسخ مكررة من تلك القطع مع بيان تفصيلي لتاريخها والحقبة الزمنية التي تعبر عنها وظروف إنتاجها سواء كانت تلك الآثار من ممتلكات المتاحف الخارجية بالشراء أو الاتفاق مع الحكومة المصرية كجزء من نصيب البعثات الأثرية الاستكشافية أو حتي كانت هدايا من حكام مصريين في العصور المتعاقبة. دعوتي هذه ربما تأتي استكمالا لما كتبته في الأسبوع الماضي تحت عنوان »إهانة رموز الأمة» عن ضرورة تسجيل المعالم وتصويرها قبل إزالتها كجزء من توثيق وإثراء ذاكرة الأمة بدلا من محوها وإهالة التراب عليها.
وإذا كان الحفاظ علي التراث المحلي ضرورة علي المستوي الثقافي والمعنوي لنا كمصريين ولخدمة الأجيال القادمة، فإن الحفاظ علي تراثنا الموجود بالخارج لا يقل أهمية عن ذلك في ظل حروب خفية تتضافر فيها دول بأكملها وشبكات لتجارة الآثار وأجهزة استخبارات عالمية تسعي للحصول علي أي دليل يمنحها حقوقا تاريخية أو يحرم آخرين من حقوقهم، ولا مانع لديهم من تزييف الأدلة أو حتي إخفائها بأي طريقة لو كانت تثبت ما يتعارض مع مصالح تلك الجهات. هذه الجهات الخفية لديها قوة إجرامية تستطيع بها ملاحقة الحلقات الضعيفة المعروف عنها فقر الإمكانات أو الإهمال والانشغال بالأمور الداخلية فيصبح من اليسير عليها الحصول علي ما يهمها أو إتلافه في غمضة عين، إما بماس كهربائي أو عقب سيجارة أو تسرب مائي تافه.
من خلال مطالعتي للصحف الإسرائيلية أكاد أجزم أنه لا يمر أسبوع دون النشر عن العثور علي نتائج حفريات أو كشف أثري يلقي الضوء علي مقطع من تاريخ البشرية سواء كانت هياكل بشرية أو قطعا نقدية أو مقتنيات وتماثيل حجرية أو نقوشا جلدية وورقية وتجري علي هذه الاكتشافات عندهم أبحاث ودراسات مستفيضة لاستنتاج ما خفي من هذا التاريخ وتفسيره كل علي هوي صاحبه.
أظننا أولي الناس بالقيام بهذا الدور، ولا تعفينا منه حالة الامتلاء الأثري أو ـ ربما ـ التخمة التي نعاني منها فتصيبنا بأعراض الإهمال والاستسهال واستكثار النعمة التي حبانا الله بها. التي تؤدي في نهاية المطاف إلي التفريط المخزي في حقوق أجيال قادمة.
نقلا عن الاخبار القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع