يبقى أن « The Post» ليس فقط الاسم المختصر لـ«واشنطن بوست» الجريدة الأشهر، وربما الأهم في الولايات المتحدة، بل هو أيضا «البريد أو الرسالة» كما تقول قواميس اللغة. لا أعرف من منكم شاهد الفيلم، ولكني أعرف أن في شرقنا العربي، بعض الرسائل قد يضل طريقه… للأسف.
لم يكن بنيتي الكتابة عن هذا الفيلم، أو ما يطرحه من «قضايا»، هي من صميم العلامات الهادية لأي دولة تريد أن تصبح «قوية» بالتعريف، بعد أن كتب عنه زملاء كثيرون، وبعد أن تذكرت أنني، وغيري أشبعت تلك القضايا (البدهية) مناقشة وبحثا وحبرا أريق على هذه الصفحة، إلا أن ما بات مشهودا مما صُرح به (أو يبيت بليل)، لا يدع أمام من لا يملك غير قلمه من مجال غير تكرار القول، والكتابة، والتذكير بما هو بدهي من دروس التاريخ. «… لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا».
تدور أحداث الفيلم في بداية سبعينيات القرن الماضي (العشرين)، بعد ما يقرب من ربع قرن من الحرب الأمريكية في فيتنام، وبعد مليوني قتيل من الفيتاميين، ونحو ٦٠ ألفا من الجنود الأمريكيين. في سنوات الحرب تلك، والتي تعد تأريخا أكثر الفصول «الساخنة» للحرب «الباردة»، ومن أكثرها فظاعة، ووحشية، ومأساوية شهد المجتمع الأمريكي، ما وصفه مؤرخوه بعد ذلك بجريمة خداع الرأي العام (تحت لافتة «الحرب على الشيوعية»)، إما بمنع التداول الحر للمعلومات، أو بالتشكيك في الولاء الوطني للمعارضين، وقمع حركات الرفض الشبابية التي ظهرت وقتها. (الملاكم الأشهر محمد علي كان أحد ضحايا هذا القمع).
يحكي لنا الفيلم، في إطار إنساني شديد الحساسية كواليس الصراع الذي خاضته صحيفة «الواشنطن بوست» (الصغيرة وقتها) وزميلتها «النيويورك تايمز» مع البيت الأبيض (ريتشارد نيكسون)، ووزارة الدفاع (روبرت ماكنمارا) حول نشر وثائق «سرية» لوزارة الدفاع توثق خداع البيت الأبيض والبنتاجون للرأي العام حول مجريات الحرب، والأسباب الحقيقية للاستمرار فيها. يومها استصدر البيت الأبيض قرارا من النائب العام الأمريكي بوقف النشر «الذي يهدد الأمن القومي، والمصالح العليا للبلاد»، ولم يتورع ماكنمارا عن تذكير (أو بالأحرى تهديد) صديقته «كاثرين جراهام» ناشرة الجريدة، بأن نيكسون (الرئيس) لن تعوزه الطريقة لسحقها إن أقدمت جريدتها على نشر الوثائق: Nixon will muster the full power of the presidency، and if there’s a way to destroy you، by God he’ll find it ساعتها كان في رد «السيدة»، التي تدرك قيمة الصحافة، وأمانة الكلمة رسالة لا تقل عن رسالة الوزير: I’m asking your advice، Bob، not your permission
ينتقل بنا سبيلبرج؛ المخرج المبدع من تصوير جوانب الصراع السياسي والقانوني بين الصحيفة «الصغيرة» والبيت الأبيض، إلى تصوير جوانب الصراع «الإنساني» بين الخوف (الذي هو إنساني بالفطرة) وبين الحقيقة (التي هي أسمى القيم الإنسانية) داخل بيت عائلة جراهام (وريث الصحيفة)، ثم داخل الواشنطن بوست بين محرريها، ومستشاريهم القانونيين، والملاك الحاليين والمحتملين.
ثم كان بعد صراع إنساني وفطري، يبدع سبيلبرج (المخرج) في تصويره، وتبدع ميريل ستريب (البطلة) في تجسيده، تستجيب الناشرة «لقرار رئيس التحرير» بن برادلي في المجازفة بالنشر: لأنه إن سكتنا، «سيفوز الرئيس.. ويخسر الوطن» … ولأنه «إذا كان بوسع السلطة أن تقول لنا ما يمكننا نشره، وما لا يمكننا نشره، فلا قيمة للصحافة؛ إذ إنها بذلك تفقد دورها ووظيفتها» هكذا قرر برادلي، ليأخذ مع زملائه (المفترض أنهم منافسون) المسألة برمتها إلى المحكمة العليا (الدستورية)، التي تنتصر للدستور ومبادئه أمام الرئيس ووزارة دفاعه. وليصدر القاضي هوجو بلاك حكمه الشهير الذي يذكر فيه بحقيقة أن الصحافة إنما وجدت «لخدمة المحكومين لا لخدمة الحاكم» In the First Amendment، the Founding Fathers gave the free press the protection it must have to fulfill its essential role in our democracy. The press was to serve the governed، not the governors
***
رسالة «The Post» أو بالأحرى رسائله، التي حرص سبيلبرج «الذكي» أن يقدمها لجمهوره في هذا الزمن «الترامبي»، كثيرة ولا تقتصر على حكم «هوجو بلاك» القاطع، ولا عبارات «بن برادلي» الواضحة، ولا موقف السيدة «جراهام» الحاسم والجريء. ففي ١١٧ دقيقة من العرض السينمائي يمكنك أن تقرأ وتسترجع دروسا عدة حسمها التاريخ، وأكدتها التجارب:
١ ــ لا يوجد دولة قوية بلا حكم رشيد، ولا يوجد حكم رشيد بلا شفافية ومحاسبة. ولا يوجد شفافية ومحاسبة بلا صحافة حرة. وعندما تصدر قرارات، بحسن نية أو بغيرها تحد (عمليا)، تلميحا أو تصريحا من حرية النشر والتعبير، فهي في نهاية المطاف تهدم أهم الأدوات التي تصبح بها الدول القوية قوية. إذ بات من نافلة القول، ومن الدروس الثابتة في التاريخ، أن الدول التي تمتعت بهذا القدر من الحرية (الحقيقية) للنشر والتعبير، هي التي حازت في النهاية على عناصر القوة على تباين مظاهرها. فلمن فاتته مراجعة الأرقام أن يتذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية (موضوع فيلم سبيلبرج) والتي حرصت على احترام ما يقرره التعديل الأول للدستور من حرية «مطلقة» للنشر والتعبير ليست فقط (الرقم واحد) في العالم من حيث القوة العسكرية (حسب تصنيف Global Firepower) بل هي أيضا التي تحوز على أكثر من ٢٤٪ من إجمالى الاقتصاد العالمي (حسب The World Economic Forum). كما أن لديها ١٦ جامعة من بين العشرين جامعة الأولى على مستوى العالم. فضلا عن حقيقة أن من بين العلماء حائزي نوبل ٣٦٦ أمريكى المولد أو ينتمي إلى مؤسسة بحثية أمريكية.
٢ ــ حين تعمد هذه الحكومة أو تلك، لأي سبب كان إلى منع تداول المعلومات، أو تزييفها، أو «تجميلها» بالأساليب الدعائية المعروفة، فلا سبيل لحماية المجتمع (بل والدولة ذاتها) إلا صحافة «كاشفة» تتمتع بحرية «حقيقية»، تسمح لها «بفضح»، ما يريد هذا أو ذاك أن يتستر عليه.
٣ــ أن المهمة الحقيقية (وربما الوحيدة) للصحافة، هي التعبير عن حق الناس في المعرفة، ومن ثم مراقبة السلطة ومحاسبتها.
٤ــ أن الأمن «القومي» بالتعريف وبحكم اللغة هو أمن «القوم»؛ كلهم، لا من تصادف له حكمهم في هذه الفترة الزمنية أو تلك. وعليه، فلهذا «القوم» صاحب الوطن، وليس فقط الشريك فيه الحق الكامل في المعرفة، والمحاسبة، والقرار.
٥ ــ في مشهد سبيلبرج الدال والذي نشاهد فيه فتاة (لا نعرفها) تسلم صحفيا (لا تعرفه) صناديق مغلقة يتضح لاحقا أنها تحوي «الوثائق السرية»، تأكيد على قيمة الصحافة بالنسبة للمجتمع. وأن حرية الصحافة ليست «ريشة على رأس الصحفيين»، كما يظن البعض أو يروج. بل هي ريشة على رأس المجتمع كله. فحرية الصحافة والتعبير هي «حق للمواطن» في أن يعرف. فلولا حرية الصحافة، ما كان المواطن الأمريكى عرف بما نشرته واشنطن بوست يومها، ولا بفضيحة ووترجيت بعد ذلك، ولا بما جرى في سجن «أبوغريب» أيام حرب العراق. ولم يكن ليخرج في المظاهرات التي شهدتها الولايات المتحدة في السبعينيات تطالب بإيقاف التورط في فيتنام. (فيما بينته مشاهد الفيلم لاحقا من أن الفتاة تعمل موظفة في البنتاجون دلالة إضافية على أننا جميعا شعب واحد، ولنا مصلحة واحدة، لا فارق بين من كان بحكم وظيفته ينتسب إلى هذه المؤسسة أو تلك).
٦ ــ أن هيمنة «المكارثية»، والعمل على إسكات كل صوت «آخر»، بتخوينه، أو بالتشكيك في مآربه، فيصمت هذا يأسا، أو يسكت ذاك احتراما لنفسه وقلمه، لم يكن أبدا في صالح أي مجتمع، أو دولة تريد أن تجد لنفسها مكانا في عالم اليوم.
٧ــ رغم أن الفيلم يندرج ضمن ما يعرف بالدراما التاريخية، إلا أن سبيلبرج؛ المبدع كان قادرا على أن يجعل الرسالة The Post حاضرة ومعاصرة. فترامب؛ سمسار العقارات العجوز قد يفوز بمنصب الرئيس محاولا تقييد حرية الصحافة، ولكن هناك مؤسسات تحمي الدستور مهما طغى الرئيس. مستلهمة ما كان من المحكمة العليا في قضية واشنطن بوست الشهيرة (موضوع الفيلم). إذ هكذا الديموقراطية؛ التي نعرف، تصحح نفسها. قد تخطئ، فتأتي بـ«الكومبارس». إلى البيت الأبيض ولكنها تدرك في الوقت ذاته أن لا علاج لأخطاء الديموقراطية غير مزيد من الديموقراطية.
***
مهنيا، ستخرج من صالة العرض وقد رأيت كيف أن «السيدة» جراهام لم تٌغلب مصالحها الشخصية، ولا العائلية، ولا علاقتها الإنسانية بوزير الدفاع القوي (روبرت ماكنمارا)، ولا المخملية بمجتمع المال والأعمال، على دورها (كناشرة) عليها أن تساعد محرريها على البحث عن الحقيقة.. وأن تحسم قرارها الصعب، رغم نصائح المستشارين القانونيين، وتهديدات البيت الأبيض الصريحة والمبطنة. «سننشر»؛ كلمة واحدة حسمت بها السيدة/ الأم كل تردد خائف، وكل جدل عقيم.
وسياسيا، ستخرج من الفيلم الذي سينتهي بمزج بين مشهد آلات الطباعة، ومتظاهري الشوارع بأن تتذكر، وبأن عليك أن تُذكر بأن الصحافة الحرة (القادرة على الرقابة)، هي التي أنهت يومها التورط الأمريكي في فيتنام، لتنقذ آلاف الأرواح من الفلاحين الفيتناميين، والشباب الأمريكيين. وبأن الصحافة الحرة (القادرة على الرقابة)، هي التي أخرجت الرئيس / نيكسون من البيت الأبيض، بعد أن فضحت ما فعله مع معارضيه (فضيحة ووترجيت). وبأن الصحافة الحرة (القادرة على الرقابة)، هي التي تقف الآن بالمرصاد لخطاب التمييز والعنصرية والشوفينية والذكورية الفج لذلك النرجسي الذي وجد طريقه إلى البيت الأبيض «دونالد ترامب»؛ المنتشي بحقيقة أنه يتخذ من القرارات ما لم يجرؤ رئيس قبله أن يتخذه. هكذا وصف حرفيا قراره الأحمق بالاعتراف بالقدس عاصمة «موحدة ومقدسة» لإسرائيل.
***
وبعد..
فنحمد الله أنه لم يدر بخلد أحدهم أن يمنع الفيلم من العرض في مصر (لتحريضه السافر على حرية التعبير والنشر)، وهو الأمر الذي أخشى أن يصبح (أو لعله أصبح) من الموبقات، أو حتى الجرائم في زمننا هذا.
أيا كان من أمر فرسالة The Post تستحق أن تصل
نقلا عن الشروق القاهريه