هذا حديثٌ عن عالم آخر، غير عالمنا. إذ نعرف قطعا أن لا مجال لمثل تلك المعركة (كما لا مساحة لمثل هذا الحديث) في شرقنا العربي، حيث أنظمة نعرفها، وقوانين باتت أكثر من أن نعرفها.
ـــــــــــــــــــــــــ
كان العام ١٩٦٩ عندما دخل ريتشارد نيكسون، الرئيس السابع والثلاثون للولايات المتحدة الأمريكية البيت الأبيض، رافعا شعار «الحفاظ على الأمن القومي»، ومستغلا مخاوف مواطنيه من التيارات السياسية الهدامة «الشيوعية». نجح الرجل الذي كان يحلم منذ نعومة أظافره برئاسة الولايات المتحدة الأمريكية في أن يفوز بفترة رئاسة ثانية (١٩٧٢) بأغلبية ساحقة. يذكر التاريخ للرجل أنه أنهى الحرب الفيتنامية بعد ربع قرن من الدماء، وأنه دعم بشكل غير مسبوق جهود مكافحة السرطان، ونجح في أن يكسر الطوق الحديدي الذي فرضته مقتضيات الحرب الباردة، وسياسات الجمهوريين على بلاده، فزار الصين (فبراير ١٩٧٢) ووقع معاهدة للحد من الصواريخ المضادة للصواريخ الباليستية مع الاتحاد السوفييي (١٩٧٢). ولكن ولعه بالحكم، واعتقاده بأنه وحده المؤهل لقيادة البلاد جعله يفشل فشلا ذريعا في «اختبار الديموقراطية». فنجح صحفيا الواشنطن بوست (الشابان وقتها) بوب وودوارد وكارل برنشتاين في إخراجه، غير مأسوف عليه من البيت الأبيض، بعد أن كشفا كيف تورطت إدارته مع حزبه في التستر على عملية تجسس على مقر الحزب المعارض «الديموقراطي» في فندق «ووترجيت»، وهو الأمر الذي انتهى بفضيحة أخذت اسم الفندق. وأدت إلى الإطاحة بالرئيس الذي اضطر للاستقالة في التاسع من أغسطس ١٩٧٤.
كان الرجل قد عاد لتوه من رحلة شرق أوسطية غير مسبوقة، زار فيها حافظ الأسد وأنور السادات، حيث رقصت له (مرحبة) سهير زكي، وغنى (معارضا) الشيخ إمام كلمات اشتهرت لأحمد فؤاد نجم، وحيث كان، وما زال من المألوف أن يتجسس الحزب الحاكم «المتماهي مع الدولة» على معارضيه. وحيث كان، ومازال يستخدم الحاكم الجهاز الأمني «للدولة» التي هي بحكم التعريف «دولة كل المواطنين» في مواجهة معارضيه.
على الناحية الأخرى من الأطلنطي، حيث ثقافة مغايرة، ودستور محترم، نجحت قصة صحفية لصحفيين شابين (عملا عليها لمدة عامين كاملين) في الإطاحة برئيس الدولة العظمى «المتفاخر» بنجاحاته.
بوب وودوارد، أحد هذين الصحفيين عاد إلى الواجهة «الرئاسية» قبل أيام بكتابه الجديد «الخوف» والذي يواجه فيه هذه المرة دونالد ترامب؛ الرئيس الذي لا يمل من القول بأنه الأنجح من كل سابقيه (!).
قبل أيام فقط من صدور الكتاب (الذي اصطف القراء لشرائه) نشرت الواشنطن بوست بعض صفحاته، التي تحكي على لسان مسئولين كبار كيف تمضي الأمور خلف الجدران المغلقة، فطار ما تبقى من صواب الرئيس الذي أوشك أن يتفرغ لتكذيب الكتاب وصاحبه والجريدة … والصحافة كلها. لم تمض أيام حتى أكملت النيويورك تايمز الصورة القاتمة بمقال لأحد مساعدي الرئيس (لم يُذكر اسمه) يكشف ما يجرى خلف أسوار البيت الأبيض، وكيف شكل بعض العاملين جبهة لحماية البلاد من حماقة مثل هكذا رئيس. عنوان المقال، الذي أثار عاصفة من التخمين حول صاحبه كان لافتا وشارحا I Am Part of the Resistance Inside the Trump Administration فكان أن أطار نشر الكتاب والمقال ما تبقى من صواب الرئيس، الذي بدا وكأن عليه أن يكذب الجميع.
تزامُن مقال التايمز مع ما نشرته البوست من كتاب وودوارد أعاد إلى الأذهان قصة معركة من أشهر معارك الصحافة الأمريكية مع «سلطة» الرئيس، والتي كانت موضوعا لفيلم شاهدناه قبل نحو العام The Post ويحكي لنا فيه مخرجه المبدع ستفن سبيلبرج التفاصيل المهنية والسياسية والقانونية «والإنسانية» للمعركة «الخطرة» التي خاضتها الجريدتان ذاتهما قبل عقود مع الرئيس وقواته المسلحة حول حق المواطنين في المعرفة. يومها انتصر القضاء لحرية النشر والتعبير. وقال القاضي هوجو بلاك كلمته المشهورة مذكرا بأن الصحافة إنما وجدت «لخدمة المحكومين لا لخدمة الحاكم» In the First Amendment، the Founding Fathers gave the free press the protection it must have to fulfill its essential role in our democracy. The press was to serve the governed، not the governors
لمن لم يعش هذه الأيام، فربما كان عليه أن يشاهد الفيلم الذي يحكي كواليس الصراع الذي خاضته الصحيفتان مع البيت الأبيض، ووزارة الدفاع حول نشر وثائق «سرية» توثق خداع المسئولين للرأي العام حول مجريات الحرب، والأسباب الحقيقية للاستمرار فيها. وعلى الرغم من استصدار الرئيس يومها لقرار بوقف النشر «الذي يهدد الأمن القومي، والمصالح العليا للبلاد»، وعلى الرغم من تهديدات وزير الدفاع أيامها روبرت ماكنمارا ــ فقد قرر بن برادلي؛ رئيس التحرير بدعم من ناشرة الصحيفة؛ كاثرين جراهام المجازفة بالنشر: لأنه إن سكتنا، «سيفوز الرئيس.. ويخسر الوطن» … ولأنه «إذا كان بوسع السلطة أن تقول لنا ما يمكننا نشره، وما لا يمكننا نشره، فلا قيمة للصحافة؛ إذ إنها بذلك تفقد دورها ووظيفتها»
***
صدر كتاب وودوارد إذن، ليفضح الرئيس، الذي لا تنقصه الفضائح، فكان أن لجأ إلى سلاحه المفضل تأليب العامة على الصحافة، والصحفيين، وأصحاب الرأي.
لم ينجح ترامب فىي استغلال مشاعر الأمريكيين المحافظة فقط، كما لم ينجح فقط في إثارة نعرات النرجسية الشوفينية (We will make America GREAT AGAIN)، ولا استحضار العنصرية القديمة للمهاجرين / المستعمرين البيض. بل نجح أيضا للأسف في استغلال حقيقة أن عامة الأمريكيين (كغيرهم) لا يقرءون الصحف الرصينة، ولا يتابعون افتتاحيات الواشنطن بوست ونيويورك تايمز، ولا مقالات النيويوركر، فكان أن أمطر متابعيه «ومصدقيه» بكم هائل من الأكاذيب (خمسة آلاف كذبة منذ توليه الحكم وحتى الثانى عشر من سبتمبر الحالي ــ حسب مرصد خصصته الواشنطن بوست لرصد الأكاذيب «اليومية» للرئيس، ودحضها بالحقائق الموثقة الدامغة).
يريد الرئيس (ويطلب صراحة) من الإعلام أن يصفق لإنجازاته الاقتصادية الرائعة، وأن يغض الطرف عن سقطاته، وعنصريته، ونرجسيته، وتصريحاته الحمقاء. وإلا فهو إعلام يعمل ضد الدولة، ويروج للأكاذيب، ويهدد «الأمن القومي» للبلاد.
الرئيس؛ الذي نجح في أن يؤلب بعنصريته بعض الأمريكيين على بعضهم الآخر، والذي يظن أنه سيفوز بولاية ثانية بعد ٢٠٢٠ (هو قال ذلك بوضوح أمام حشد من رجال البوليس التقاهم في البيت الأبيض)، لم يتردد فقط في أن يحذر مواطنيه من الفقر والفوضى الأمنية «إن ترك الحكم لغيره»(!)، بل لم يتردد في أن يحذرهم من «تصديق» الصحافة الرصينة التي ما فتئ يتهمها بالكذب. (النيويورك تايمز أفردت صفحة كاملة في ٢٥ يونيو ٢٠١٧ «لتوثيق» أكاذيب الرئيس).
***
بعد أسابيع من صدور كتاب لواحدة من مساعدي ترامب المقربين يصفه بالمعتوه Unhinged صدر كتاب وودوارد حافلا باللقاءات والتسجيلات الموثقة، وكنا قد علمنا أن الصحفي الكبير لم ينجح في أن يلتقى بالرئيس (رغم عديد المحاولات). فالرئيس لا يحب الصحافة أصلا، فما بالك لو كان الصحفي هو بوب وودوارد الذي سبق له أن أخرج رئيسا من البيت الأبيض. ثم كان قبل أسابيع فقط من ظهور الكتاب أن تحدث الرجلان (على الهاتف)، ونشرت الواشنطن بوست نصا صوتيا للمكالمة المثيرة المسجلة. هل استمعتم إلى التسجيل؟ الرئيس الذي تهرب واقعيا من لقاء الصحفي «المحقق»، لا يتحدث إلا عن إنجازاته «الرائعة» ووعوده الكبيرة. الرئيس خائف. وكيف لا يخاف وأمامه صحفي بقامة بوب وودوارد. لو كان في عالمنا العربي، ما أضاع «وقته الثمين» مع الصحفي المشاغب. جرة قلم «رئاسية» كانت تكفي لقصف قلم الصحفي، أو وضعه خلف القضبان ليتعلم كيف تكون مخاطبة الرؤساء والملوك. وكيف أن انتقاد الحاكم (وأحيانا حاشيته أو حزبه أو مؤسسته) هو عيب في «الذات الملكية» المصونة، والمحصنة بحكم القانون، والأعراف البالية، والتخريجات الدينية لفقهاء السلاطين.
لا يختلف الترامبيون عن بعضهم البعض في كرههم للصحافة، أو بالأحرى لبدهية حق الناس في أن تعرف. فهم إما لا يحبون أن يعرف مواطنوهم ما يفعلون، وإما يعتقدون بأنهم «وحدهم يعرفون» ما فيه خير البلاد والعباد، بحكم «ما يوحى» به إليهم، وبأنهم لا يُسألون عما لا يفعلون.
يظن أصحاب السلطة، المغترون بقوتهم أن مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ، وفقهاؤهم، وإعلاميوهم، ولكن الحساب قادم بلا شك، وإن تأخر. قد يحاول ترامب وأشباهه إهالة التراب على الإعلام، وخنق حرية الكلمة، والتحصن وراء جدار سميك من الأكاذيب المقترنة بتشويه الصحافة، وكل كلمة معارضة. بل وقد ينجح بعضهم في إلغاء الكلمة المعارضة أصلا؛ رقابة، أو تأميما، أو تدجينا، او حتى اعتقالا وإخراسا. هكذا دأب كل النرجسيين السلطويين. ولكن الكلمة تأتي دائما فاضحة وإن تأخرت. الآن نعلم ما فعله ستالين، وفرانكو، وبينوشيه، وشاوشيسكو، وعيدي أمين… إلى آخر قائمة طويلة من الظلم والدعاية الكاذبة والدماء. والآن قرأنا ما كان القذافى يفعله في أقبية قصره في كتاب موثق للصحفية فرنسية أنيك كوجان Annick COJEAN التي عملت لثلاثين عاما في اللوموند قبل أن تصدر كتابها المفزع Les proies عن الجرائم الجنسية للرئيس (الكتاب ترجم إلى العربية بعنوان: «الطرائد»).
***
يبقى أن في آخر ما نقلته لنا «الصحافة» من أخبار «الرئيس»، أن بول مانافورت، المدير السابق لحملة ترامب الانتخابية وافق على التعاون مع سلطات التحقيق في مسألة التدخل الروسي المحتمل في انتخابات ٢٠١٦ معترفا بالذنب في تهمتي: تضليل العدالة، والتآمر ضد الولايات المتحدة. كرة الثلج تتدحرج، وإن كان لا أحد يعرف إن كانت ستطيح بالرئيس من مكتبه البيضاوي كما فعل بوب وودوارد «الصحفي» مع ريتشارد نيكسون «الرئيس» قبل أربعة عقود أم لا، إلا أن الثابت أن كتاب وودوارد الذي عنونه «الخوف» قد صدر، وأنه «أخاف» الرئيس.. راجعوا تغريداته.
***
وبعد..
فالحاصل أن الصحفي الكبير الذي سبق له أن أخرج نيكسون من البيت الأبيض كتب ما كتب عن الرئيس، فصدر كتابه، ونشرت عنه الصحف، وقرأه الناس. إذ قد يكره الرئيس الصحافة، وقد يتهمها كل يوم بالكذب، وأنها لا تعاونه في جعل بلاده قوية make America GREAT AGAIN، ولكنه قطعا لن يتمكن، (وإن تمنى) من إصدار قوانين تحد من حريتها. فهذا بلد يدرك أنه لم يصل إلى أن يصبح البلد الأقوى في العالم إلا باحترامه للتنوع والحرية.. والتعديل الأول للدستور.
نقلا عن الشروق القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع