بقلم : أحمد عبدربه
أحد أهم الفروق التى تقف بين العالم العربى والعالم الحديث بالإضافة إلى المؤسسات الدينية والثقافة القبلية، هو الجهل. ليس المقصود هنا فقط عدم القراءة والكتابة، وإن كانت الأخيرة مازالت تعوق بالفعل العالم العربى عن اللحاق بالعالم المتقدم بسبب تفشى الأمية وما تستدعيه من عقليات منقادة وسطحية تصدق الخرافات وتتبع الدراويش، ولكن المقصود هنا بالجهل، هو تفاهة وسطحية عقول بعض المتعلمين والمثقفين فى العالم العربى الذين كانوا ومازالوا يخذلون مجتمعاتهم.
فهناك علاقة طردية واضحة بين سطحية عقل المثقف أو المتعلم وبين قدرته على الترقى الاجتماعى والسياسى والوظيفى فى كل دول المنطقة العربية دون استثناء تقريبا. فالمثقف المستقل صاحب العقل النقدى يثير ريبة السلطة وحفيظة المجتمع. بينما الساذج صاحب العقل المنقاد الطيع غير المتمرد قادر على مغازلة السلطة ومداعبة المجتمع فهو لا يقلق أيا منهما لأنه يقدم فروض الولاء للسلطة المذعورة من التغيير وللمجتمع الغارق فى الأوهام العصبية والقبلية والطائفية عموما.
فى بلاد النيل العربية قابلت عددا كبيرا من المثقفين السذج (أو ربما ممن يدعون السذاجة)، بحيث إن الدخول فى أى موضوع اجتماعى أو سياسى هو بمثابة إضاعة للوقت من حجم الجهل بالتطورات المعاصرة والغرق فى نظريات المؤامرة فضلا عن كمية من العنصرية والصلف المثيرة للاشمئزاز.
فى بلاد الشام قابلت عددا آخر من المثقفين المتنورين، أصحاب العقل النقدى والشخصية المستقلة لطالما كانت الأحاديث بعيدة عن الموضوعات القومية أو المذهبية، ولكن إذا ما تداعى الحديث ووصل إلى نقطة ما مذهبية كانت أو قومية يتحول الشخص الواقف أمامك إلى النقيض وتسمع كلاما طائفيا لا يصدق ولا يتماشى مع عدد اللغات أو الخلفية الاجتماعية والثقافية لهذا المثقف أو هذه المثقفة!
فى دول الخليج العربى، قابلت ما يمكن أن نسميه بالمثقف القبلى، مجموعة من المثقفين المنفتحين على الغرب، يتحدثون لغة أجنبية واحدة على الأقل، بعضهم يعمل فى أماكن مرموقة توفر له الاستقرار والعيش الكريم، ولكن مواقفهم العامة هى مواقف قبلية بامتياز لا تدافع سوى عن القبيلة ومواردها، خطبها العامة والخاصة ليست سوى تمثيل لمواقف شيخ القبيلة (الحاكم السياسى) فمواقف الأخير السياسية والمذهبية هى نفسها مواقف عدد كبير من هؤلاء!
ربما أفضل مثقفين قابلتهم من حيث الاتساق مع النفس ومحاولة قيادة مشروعات ثقافية حقيقية ومستقلة (بقدر الإمكان)، هم مثقفو دول الشمال الإفريقى. وجدتهم الأكثر تعليما وانفتاحا وتوازنا والأقل جهلا وعصبية وقبلية وطائفية. مواقف الكثير من هؤلاء متوازنة ومتسقة كثيرا وخصوصا فى مواجهة الموضوعات الشائكة الدينية والاجتماعية والسياسية. ربما فقط تقف ثقافتهم الفرانكفونية حائلا بعض الشىء عن التواصل مع باقى أقرانهم فى المحيط العربى، ولكن لا بأس فربما كان هذا لصالحهم ولصالح مجتمعاتهم.
***
خذلان المثقف للمجتمع ليس قاصرا على المنطقة العربية، ولا هى ظاهرة جديدة فى تجارب الدول والمجتمعات، ولكن خصوصية المنطقة العربية هى استمرار هذا الخذلان وخفوت فرص النهضة أو التغيير.
الحقيقة أن هناك ثلاثة أنواع من الخذلان الذى يصدره المثقف لمجتمعه، وهنا يمكن إجمال بعض هذه الأنواع:
النوع الأول: خذلان التآمر، ظاهرة تآمر المثقف ضد مجتمعه ظاهرة معروفة فى المجتمعات الحديثة وكتابات إدوارد سعيد وغيره تتناول هذه الظاهرة بالكثير من التحليل والرصد. يخذل المثقف مجتمعه حينما يقرر أن يتحول إلى ترزى للسلطة، يستخدم علمه وبلاغته وأدواته البحثية وتقديره من المجتمع للحفاظ على موقعه القريب من السلطة ومن أجل تمرير وتبرير خطاب الأخيرة.
العالم العربى ملىء بهذا النوع من المثقفين، أكاديميين وقادة فكر ورأى معظمهم من أسر تنتمى إلى عامة الشعب تخذل مجتمعها مع سبق الإصرار والترصد عن طريق التآمر على وعيهم واستغلال بعض الجهل أو عدم المعرفة لتعضيد مواقف السلطة والسيطرة على عقول الشعوب العربية. هذا النوع من المثقفين العرب له عادة ثلاثة أوجه، وجه يظهر فى المحافل الخاصة يتحدث بصراحة عن حقيقة الأوضاع العربية البائسة، بل وقد يطال نقد لاذع للحكومات والحكام، ووجه آخر عام يظهر فى المحافل واللقاءات العامة ليتحدث عن جهل الشعوب العربية وطائفيتها وعنصريتها كمبرر لغياب التغير والإصلاح السياسى، هذا الوجه يدافع أيضا عن السلطة وعن قراراتها ويحمل المجتمع دائما المسئولية عن التراجعات والإخفاقات.
النوع الثانى: خذلان الجهل، والمقصود هنا أن المثقف يقف فى مربع الجهل بأشكال مختلفة، فهو إما متخصص فى مجال معين ولكنه يفتى فى مجالات أخرى بغير علم فيسىء لنفسه ويسىء لعلمه وبالقطع لمجتمعه، أو هو مثقف السوق أو مثقف الوراثة، أى إنه بالفعل لا يملك حدا أدنى من العلم حتى فى المجال الذى يدعى التخصص فيه ولكن تم تسويقه بواسطة جهة ما أو ورث وظيفة المثقف عن والده أو أجداده وأصبح حديث مجتمعه وقائد فكر ورأى وهمى يقف على قمة جبل الجهل والسذاجة والسطحية بفعل أدوات التسويق والتلميع والأضواء أو الوراثة.
النوع الثانى هذا أكثر انتشارا فى المنطقة العربية، قابلت وعرفت الكثير من المثقفين الذين تم تسويقهم جيدا أو ببساطة تمكنوا من تبوؤ هذه المكانة عن طريق الانتماء لعائلات أو قبائل وأسر بعينها، ولعل الحالة المصرية فى هذا السياق دالة على حقيقة أوضاع المثقفين البائسة فى العالم العربى. كم الكتاب والمثقفين ونجوم المجتمع الذين يبوأون هذه المكانة فقط لأن أحد آباءهم كان من نجوم المهنة لا يعد ولا يحصى، قليل منهم هو بالفعل الذى تمكن من الوصول إلى هذه المكانة بفعل موهبته والكثير فعلها فقط بسبب وراثته!
النوع الثالث: خذلان الخوف، فالمثقف هنا يخزل مجتمعه لأنه خائف من السلطة، ولما كانت معظم الدول العربية تحكمها نظم لا تسمح إلا بهامش ضئيل من الحرية والأمان (هذا إن سمحت أصلا)، فبعض المثقفين العرب يمارسون دورهم وهم خائفون وغير آمنين على أوضاعهم ولا حتى على أسرهم. هذه الأوضاع مفهومة فى الدول الأقل ديموقراطية، ولكن كيف يتصرف المثقف الخائف؟ هذه هى المعضلة، الخوف لا يبرر الانبطاح ولا التماهى مع السلطة، إن خفت اسكت، ومعظم الفنانين والرياضيين والمثقفين والأكاديميين وقادة الفكر والرأى ونجوم المجتمع الذين يبررون مواقفهم العامة المخزية لأصدقائهم فى جلساتهم الخاصة بأنهم مجبرون، كاذبون وهم يعلمون أنهم يكذبون، نعم يمكنك اختيار ألا تتحدث أو تعلن موقفا عاما لأنك خائف، لكن من غير المقبول إعلان مواقف عامة منبطحة ويتم تبريرها بتلقى التهديدات! أنت هنا أكثر بؤسا وانحرافا مما يتصور البعض لأنك فى الواقع تتاجر بسلطوية الدولة لتبرير مواقفك الانتهازية ببساطة!
فى دول كثيرة سبقتنا إلى التقدم والحداثة لم يكن السبيل للقضاء على أمثال هؤلاء المتخاذلين سوى فى بناء جيل جديد أكثر وعيا ودراية وأكثر اتساقا مع المبادئ وأكثر تعلما وانفتاحا وتصالحا مع الحداثة مع درجات أقل من الانتهازية والوصولية وهو الأمر الذى مازال ممكنا فى المنطقة العربية ونتمناه أن يكون أقرب مما نتصور.
نقلا عن الشروق
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع