بقلم - أحمد عبدربه
خلال الأيام القليلة الماضية اشتعل الحديث بين الأصدقاء والمعارف سواء على مواقع التواصل الاجتماعى أو فى الأحاديث الودية المباشرة حول ظاهرة التحرش وأسبابها ومن يلام بسببها، والأهم من يقدر على تعريف معناها وما إذا كانت قد وقعت بالفعل أم لا!
بالرغم من حدة الحديث المصرى فإنه ليس فريدا، فالموضوع يناقش بنفس الحدة والسخونة فى المجتمعات الغربية رغم ما حققته الأخيرة من تقدم ملحوظ فى قضية المساواة بين الجنسين ورغم أفضلية الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية والحريات العامة (ومن ضمنها الحريات الجنسية) عن مجتمعاتنا العربية.
انفجر الحديث المصرى مؤخرا بسبب مقطع فيديو شهير نشرته إحدى الفتيات تشكو من تحرش أحدهم يظهر فى المقطع وهو يعرض عليها شرب القهوة فى المكان المجاور فرفضت الفتاة وانصرف الشاب، ما دفع البعض للقول إن الشاب برىء ولم يتحرش وأن الفتاة تبحث عن الشهرة فاشتعل الحوار ومعه أصبح الشاب من المشاهير المحتفى بهم بينما تعرضت الفتاة للوم وطالتها الاتهامات والتعليقات التى طعنت فيها بخصوص طريقة لبسها و«ستايل» حياتها المتحرر!
حسنًا فعل المجلس القومى للمرأة بإعلانه مساندة الفتاة قانونيا فى مواجهة ما تردد عن عزم الشاب مقاضاتها بتهمة التشهير! وحسنا فعل الأزهر الشريف ببيان خلا من الإدانة المشروطة للتحرش وتبنى إدانة مطلقة وصريحة لأفعال التحرش جميعا رافضا بصراحة اعتبار أن لبس الفتاة هو السبب، لكن ورغم هذه المساندات لم تنته القضية ولا يبدو أنها ستنتهى قريبا! منذ يومين فقط نشرت إحدى طالباتى صورة لها بعد أن تم التحرش بها فى الشارع حينما ترجلت من أتوبيس عام قاصدة أحد «المولات» بشرق القاهرة واستغرق الطريق دقيقتين فقط حينما قام أحدهم بالبصق عليها! وبقدر ما ساندها البعض، قام آخرون بمهاجمتها بضراوة داعمين فعل البصق بل وموجهين اللوم للفتاة وأهلها تحت دعوى أن لبسها هو السبب ما اضطر الفتاة إلى إغلاق التعليقات لإيقاف هذا الهجوم!
***
الحديث التقليدى عن أسباب التحرش من جانب التيار المحافظ فى المجتمع يحمل الفتاة بالأساس المسئولية ويرى أن زيها هو السبب الرئيسى للتحرش تحت دعوى أن زى الفتاة هو دعوة مبطنة للذكر من أجل الاقتراب، بينما يذهب البعض إلى تحميل الظروف الاقتصادية والاجتماعية التى تمر بها البلاد المسئولية عما يحدث كون أن هذه الظروف أخرت سن الزواج، ما يتسبب فى كبت الرغبات الجنسية ومن ثم يحدث الانفجار فى شكل تحرشات فردية أو جماعية. بينما ترى تيارات أخرى أن غياب الثقافة الجنسية وعدم إباحة الحريات الجنسية هى السبب الرئيسى للتحرش داعين إلى إطلاق الحريات الجنسية كسبيل لحل المشكلة!
والحقيقة أن الموضوع أكثر تعقيدا من كل هذه الأسباب، فالفتيات المحجبات يشتكين من التحرش، والكثير من أبناء الطبقة الوسطى يتورطون فى قضايا تحرش، فضلا عن أن بعض المتزوجين أيضا يفعلون الشيء نفسه، كما أن البلاد التى تتيح الحريات الجنسية لديها الظاهرة نفسها ولعل حملة «أنا أيضاــ Me Too» قد كشفت عن حجم المشكلة فى المجتمعات الغربية.
ومع اعترافى أن المشكلة أصبحت أكثر تعقيدا من تفسيرها بسبب واحد إلا أنى أضع هنا إطارا قد يمهد لفهم الظاهرة فى مصر وفتح حوار هادئ بشأنها:
المحور الأول لهذا الإطار هو محور الثقافة الذكورية التى هيمنت على الفهم العام فى مصر حتى وقت قريب وقد غذتها بعض التيارات الدينية المتعصبة والتى روجت وبشدة لانسحاب السيدات من المجال العام باحثة عن تفسيرات شرعية لهذا التوجه، حتى أنه وقر فى أذهان الكثيرين من أبناء الشعب أن السيدة ليس لها إلا بيتها، وتم الترويج للنقاب باعتباره فرضا، وتعرضت فيه السافرات للوصم بالتهافت الأخلاقى، ما ساهم فى خلق ثقافة شعبية مهيمنة لا ترى المرأة إلا باعتبارها مفعولا به، مجرد أداة جنسية للتناسل بلا هوية أو شخصية مستقلة. هذه الثقافة الذكورية قامت أيضا بابتزازات لا حصر لها للذكور لقهر نسائهن وإلا تم وصمهم بالدياثة وهو ما شكل ضغطا إضافيا على السيدات والبنات فى مصر وجعلهن فى مواجهة مستمرة مع المجتمع ومع أسرهن.
المحور الثانى يتمثل فى حالة تواطؤ مجتمعى تنتصر للجانى على حساب الضحية وهو جزء من ثقافة تكونت عبر العقود القليلة الماضية تنحاز للأقوى على حساب الأضعف، وهذه الحالة ساهمت فيها النظم المتعاقبة على حكم مصر بضعف ما وفرته من أدوات تشريعية وتنفيذية لحماية الضحايا الأضعف عموما والفتيات المتحرش بهن خصوصا، فهناك شهادات متواترة عن ضغوط تتعرض لها الضحية فى بعض أقسام الشرطة أو من المارة فى شارع أو وسيلة مواصلات كانت مسرحا لحادثة تحرش أو حتى من الأسرة نفسها تحت دعاوى الخوف من الفضيحة أو الشوشرة أو تجنب المشكلات! هذا التواطؤ لم ينصف المرأة أيضا فى قضايا أخرى مثل الميراث (تحرم منه سيدات كثر فى الصعيد مثلا) وقضايا النفقة والزواج والطلاق وغيرها.
أما المحور الثالث والأخير فى إطار فهم تعقيد هذه المشكلة فيتمثل فى تعالى بعض الأصوات النسوية شديدة العنف والتعصب والتى قامت بصنع خطاب نسوى يتسم فى رأيى بالعنف والتشنج اللفظى ما يستحيل معه إقامة حوار هادئ للفهم وتبادل الآراء ويحول القضايا النسوية إلى قضايا ممنوع الاقتراب منها أو مناقشتها، وهو ثانيا خطاب معمم يتعامل مع الرجال على أنهم كائن موحد الصفات والرغبات والدوافع وأن هذا الكائن بالضرورة يسعى إلى السيطرة أو الهيمنة دون تمييز التباين النفسى والعقلى والمعرفى داخل نفس النوع الذكر مثل الأنثى، وهو ثالثا خطاب لا يسعى إلى المساواة ولكنه يسعى إلى الهيمنة النسوية بنفس المنطق الذكورى ما أنتج علاقات مشوهة بين الرجال والنساء فى مجتمعاتنا يعتبر العلاقة بين الاثنين هى حلبة للتصارع والمغالبة وإثبات القوة ما ساهم فى جعل العلاقة وكأنها معركة صفرية خسر فيها الجميع!
***
هذه المحاور الثلاث تصلح فى رأيى كمدخل للنقاش والفهم الهادئ لهذه المشكلة، كيف يمكن الدفاع عن حقوق المرأة ووضعها فى المجتمع دون تشويه الرجل بالضرورة والانتقاص منه وتحديه وكأنها معركة من كاسب وخاسر وليست علاقة بين شريكين؟ كيف يمكن استكمال البنية التشريعية لحماية حقوق المرأة وعلى رأس هذه الحقوق حريتها فى الملبس وفى الظهور الحر الآمن فى المجال العام ونضمن التزام المجتمع والمؤسسات التنفيذية وعدم تواطؤها مع المتحرشين قولا أو لفظا أو تجاهلا، وهل يمكن اعتبار بيان الأزهر الأخير بداية لتغير خطاب دينى حقيقى ينتصر لحقوق المرأة ويحميها بحق؟ نحتاج لحوار جاد حول الظاهرة وأتصور أن هذا مجرد مدخل أولى للمناقشة.
نقلا عن الشروق القاهريه
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع