نحن الآن نعيش فى عصر وصل فيه إتاحة التعليم للعامة لمستويات قياسية، بحيث تزايدت نسبة القادرين على القراءة والكتابة بل ووصلت معدلات التعليم العالى لكلا الجنسين لمستويات مرتفعة حتى فى دول العالم الفقيرة، أصبح جلوس الطلاب أمام معلم لتدارس الأمور الفلسفية والدينية والأخلاقية فضلا عن العلوم الإنسانية والاجتماعية بما فيها مناقشة وتحليل النظم السياسية الديموقراطية داخل قاعات دراسة جامعات الدول السلطوية كبيرا للغاية، عالم انتشرت فيه وسائل التواصل الاجتماعى مدفوعة بثورات تكنولوجية مستمرة فى كل دول العالم وأصبح عدد المستخدمين للشبكة العنكبوتية وخدماتها كبيرا جدا بغض النظر عن مستويات الدخول والطبقات الاجتماعية وطبيعة النظم السياسية، تستطيع أن تطلع على جلسة استماع للكونجرس الأمريكى من السعودية، يمكنك متابعة مناظرات المرشحين لرئاسة الحكومة الألمانية من إيران، ببساطة تستطيع أن تتابع برامج الحزبين المحافظ والعمال فى بريطانيا من زيمبابوى، أو مشاهدة مظاهرات سلمية حرة ضد الحكومة فى السويد من ميانمار، أو حتى متابعة جلسة المحكمة العليا وهى تسقط رئيسة البلاد بتهمة الفساد فى كوريا الجنوبية من القاهرة!
نحن أيضا نعيش فى عالم تزايد فيه عدد النظم الديموقراطية فى آخر ثلاثين عاما بشكل غير مسبوق، ومعه تزايدت الأفكار الليبرالية الداعمة للتعددية وحقوق الإنسان والحرية، وقلت النزاعات والحروب بين الدول وهو ما يعنى تزايد معدلات الاستقرار ومن ثم النمو والتقدم الاقتصادى والاجتماعى. وبالتوازى مع كل ذلك تعقد التشبيك الدولى ووصل لمستويات غير مسبوقة فى تاريخ البشرية، بحيث أصبحت الغالبية العظمى لدول العالم عضوا فى أكثر من تنظيم دولى وإقليمى، موقعة على مئات الاتفاقيات الثنائية والمتعددة، متعهدة بالحفاظ على العهود الدولية المعتمدة من المنظمة الأكبر (الأمم المتحدة)، كل دول العالم تتبادل البعثات الدبلوماسية، وتشترك فى أنشطة رياضية وثقافية وفنية واجتماعية محوكمة عالميا.
***
الاتحاد الدولى لكرة القدم (الفيفا) لديه من القوة والتأثير ما يفوق قدرات عشرات النظم السياسية مجتمعة، حينما ينظم حدثا عالميا مثل كأس العالم، فإنه يتحكم من خلال وسائل سمعية وبصرية وقوانين ولوائح رياضية وأنظمة تسويقية وترفيهية وعقود والتزامات دولية فى المليارات من البشر لمدة شهر كامل بشكل لا يمكن لأى دولة أو نظام منافسته! اللجنة الأولمبية الدولية سواء للألعاب الشتوية أو الصيفية تستطيع التحكم أيضا فى شعوب عشرات الدول والأنظمة عبر منظومة مستقلة للحوكمة، تتمكن من الامتاع والتعبئة بطريقتها وقوانينها، تتمكن من معاقبة الدول وحرمان رياضيها من حمل علمها أو غناء نشيدها الوطنى بسبب مخالفة اللوائح الأولمبية، وتتقبل الدول هذا كله وبشكل ربما لا تفعله مع غيرها من الدول المنافسة أو حتى الصديقة!
إمبراطورية «هوليوود» فى الغرب أو «بليوود» فى الشرق تستطيع صناعة صور ذهنية وتشكيل وعى سياسى وثقافى واجتماعى مختلف، تستطيع الإحزان أو الإسعاد، التعبئة أو التهدئة، صناعة قيم اجتماعية جديدة بشكل يفوق قدرة أى نظام سياسى على فعل الشىء نفسه مهما حاول. منظمات أخرى نوعية مثل العمل أو الصحة أو الثقافة والتعليم، لديها أجندات وقدرات بشرية ومادية للتأثير على سياسات الدول القومية وشعوبها والتدخل بشكل مباشر أو غير مباشر فى طريقة صنع السياسات العامة.
ألا تكفى كل هذه التطورات والتعقيدات الحديثة لنشر الفكر الديموقراطى الليبرالى الرأسمالى المنتصر مرتين فى السبعين عاما الأخيرة من عمر البشرية ( ١٩٤٥ و ١٩٩٠)؟ هل يمكن أن يعود التاريخ إلى الوراء بعد كل القفزات البشرية التكنولوجية؟ لا أحب أن أصدمك أو أن أكون من مروجى الروح التشائمية، ولكن وبكل أسف نعم يمكن أن تحدث تراجعات على طريق الديموقراطية بل وأدعى أننا بالفعل نشهدها!
الهزائم المتوالية للديموقراطية والتحولات الناجحة نحو السلطوية ــ والتى شرحت مؤشراتها فى مقال الأسبوع الماضى ــ لا يمكن فهم أسبابها إلا بإعادة قراءة الأسس التى بنت بها النظم الديموقراطية شرعية وجودها خلال العقود السبعة الأخيرة فى مقابل المنطق الذى اتبعته النظم السلطوية فى التبشير بأنظمتها الشمولية خلال العقدين الأخيرين من الزمان.
***
نجح التبشير بالسلطوية لعدة أسباب، منها أن الوعد الديموقراطى بعد ١٩٤٥ بدأ يتآكل تدريجيا بمرور الزمن حتى أنه بدأ فى التلاشى تماما، ليس فقط فى الدول الأقل ديموقراطية وتقدما ولكن حتى داخل الدول الديموقراطية الغربية المتقدمة. هذا التأكل أو التلاشى بدأت وتيرته تتسارع (للغرابة) بعد هزيمة الاتحاد السوفيتى! فبينما كان انتصار الفكر والتطبيق الديموقراطى بعد الحرب العالمية الثانية منتشيا بانتصار الحلفاء وهزيمة المحور، فإن أحد أهم أسباب استمرار هذا الانتصار هو التنافس مع الشيوعية السلطوية! فوجود الاتحاد السوفيتى وكتلته الشرقية وفكرهم التأميمى سياسيا واقتصاديا هو ما ساهم وبشكل كبير فى استمرار بذل الجهد الرأسمالى للوفاء بتعهدات الكتلة الغربية، هو ما عجل بحركة دائمة للدول الغربية من أجل التشبيك والتعقيد على كل المستويات الممكنة لحماية المنطق الديموقراطى الليبرالى وآليته الرأسمالية! جرت دول الكتلة الغربية لإعادة إعمار دول المحور المهزومة (ألمانيا، إيطاليا، اليابان) بل وإعادة تأسيس نظامها السياسى والثقافى والاجتماعى.
تم تطويق الكتلة الشرقية فى الحرب الكورية وبالتوازى بالتدخل فى الشأن الإيرانى، ثم فى مقامرة فيتنام، كانت الحرب الباردة تدور رحاها فى الشرق الأوسط، تم تأسيس حلف شمال الأطلسى (الناتو)، وبالتوازى بدأت إجراءات السوق الأوروبية المشتركة، تم السيطرة على تمويل ومأسسة وتطوير الأمم المتحدة وموظفيها ومواردها تدريجيا، تأسست سلطات اقتصادية ومالية ونقدية للانتصار للمنطق الاقتصادى الرأسمالى (صندوق البنك الدولى والبنك الدولى)، تم تأسيس قواعد التجارة الحرة بإنشاء الاتفاقية العامة للتعرفة الجمركية والتجارة (الجات)، تم اعتماد برامج مساعدات ضخمة على مستويات قومية فردية وتعددية للانتصار للقيم الديموقراطية الليبرالية، انضم عدد كبير من علماء السياسة والاقتصاد لدوائر صنع القرار وأسسوا مدارسهم الخاصة للترويج للأفكار الديموقراطية الليبرالية ومنطقها الرأسمالى من داخل جامعاتهم ومراكزها الفكرية والبحثية!
***
لكن جاء انهيار الاتحاد السوفيتى ليقلب الطاولة على الجميع! كانت لحظة ١٩٩٠/١٩٩١ فارقة فى تاريخ تطور الفكر السياسى وتطبيقاته العالمية، الاتحاد السوفيتى ينهار، دول الكتلة الشرقية تتحول ديموقراطيا ورأسماليا، الأنظمة العسكرية فى شرق وجنوب شرق آسيا وأمريكا اللاتينية تنهار واحدا بعد الآخر، التبشير بالسلام بين العرب وإسرائيل يبدأ فى الشرق الأوسط من مدريد ثم أوسلو على خلفية تحرير الكويت من الغزو العراقى، منطق جديد لتحرير التجارة والانتصار للمنطق الرأسمالى يبدأ مع تحويل الجات إلى منظمة التجارة العالمية وماعرف لاحقا بتوافق واشنطن (Washington Consensus)، هل يوجد لحظة أفضل من هذه لإعلان انتصار الديموقراطية الليبرالية الساحق على السلطوية العالمية؟!
لست من هواة المنطق التحليلى الجدلى (الديلكاتيكى)، لكن الأخير يكون مبهرا فى تفسير بعض الظواهر أحيانا! إعادة قراءة تاريخ الانتصار الديموقراطى الأول (١٩٤٥)، والثانى (١٩٩٠) يقودنا إلى نتائج تستحق التأمل!
بعد الانتصار الأول، دول الكتلة الغربية لم تنتصر للديموقراطية لكنها انتصرت للرأسمالية! أى أن أى تحليل محايد غير حماسى يقودنا إلى أن الانتصار والانحياز لم يكن للوعد السياسى (الديموقراطية والتعددية وحقوق الإنسان)، ولكن كان للمنطق الرأسمالى القائم على تحرير السوق! الغرب انقلب على مصدق المنتخب ديموقراطيا فى إيران بدعم مباشر لانقلاب عسكرى أعاد الشاه الديكتاتور إلى الواجهة! تهمة مصدق لم تكن بالطبع أنه ديموقراطى (رغم أنه كان هكذا بالفعل)، لكن كانت أنه اشتراكى أو شيوعى يسعى لتأميم آبار النفط! لم تشفع له ديموقراطيته طالما أنه لم يلتزم بالسياسات الرأسمالية الاستعمارية.
الغرب دعم شبه الديكتاتور المدنى فى كوريا الجنوبية (سينجمان رى) والذى قام بتعديل الدستور ليسمح لنفسه الترشح للرئاسة مدى الحياة، ثم حينما خرج من السلطة وتحكم بمقادير البلاد ديكتاتور آخر ولكنه عسكرى هذه المرة (الجنرال بارك) فقد استمر الغرب فى الدعم لطالما ظلت كوريا الجنوبية فى المعسكر الغربى، نفس الشىء تكرر مع تركيا والتى كانت تشهد انقلابا عسكريا مرة كل عقد بانتظام منذ الستينيات ولكنها بقت ضمن الكتلة الغربية وفى القلب من ترتيباتها الأمنية! وهكذا كان الأمر مع سلطويات جنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وقطعا أمريكا اللاتينية! المثير بالفعل أن هذه النظم لم تنحاز للرأسمالية بالمفهوم الغربى أبدا، بل إنها اتبعت نظم رأسمالية المحاسيب أو الدولة بلا سوق حر أو آليات شفافة للمنافسة، ورغم ذلك ظلت فى المظلة الغربية بلا تغيير! لم يتخل الغرب الديموقراطى الليبرالى عن هذه النظم سوى بعد تهاوى الاتحاد السوفيتى مع وصول جورباتشوف وتغير وجه الشيوعية الصينية بعد وفاة ماو!
لكن كيف كان انهيار الاتحاد السوفيتى سببا فى تلاشى الوعود الديموقراطية؟ ولماذا كان انهيار الكتلة الشرقية هو فى الوقت ذاته قبلة الحياة للسلطوية؟ هذا ما أناقشه فى مقالة قادمة.
نقلا عن الشروق القاهريه