بقلم: أحمد عبدربه
حين اندلعت الانتفاضات العربية فى عام ٢٠١١ فإن توقعات كبيرة قد صاحبتها بتحول الدول العربية من مرحلة الحكم السلطوى إلى مرحلة الحكم الديمقراطى، بدت المنطقة بالفعل مقبلة على تغييرات كبيرة، لكن تراجعت الثورات سريعا، فلم تنجح الثورة المصرية فى الاستمرار، سقطت ليبيا واليمن وسوريا فى براثن الحروب الأهلية والتدخلات الخارجية، فيما بقت تونس استثناء على القاعدة، حيث استمر النموذج السياسى الديمقراطى التونسى فى النجاح رغم الصعوبات والتحديات الجمة التى واجهته.
بحلول عام ٢٠١٥ كان هناك قناعة تامة لدى البعض أن موجة الانتفاضات العربية قد فشلت تماما، وأن المنطقة قد عادت إلى مرحلة ما قبل الانتفاضات حيث القمع وتأميم المساحات العامة ومعاداة المجتمع المدنى واحتكار عملية صنع القرار السياسى بواسطة عدد محدود من النخب الحاكمة.
مع حلول عام ٢٠١٧ بدأت تراجعات ديمقراطية أكبر على المستوى الدولى، وصل ترامب لحكم الولايات المتحدة وهو المعروف بمعاداته للقيم الديمقراطية والليبرالية، ارتفعت وتيرة الشعبوية والتيارات اليمينية فى غرب ووسط أوروبا بالإضافة إلى بعض دول أمريكا الجنوبية، صوت الإنجليز لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبى، ضرب الإرهاب بقوة فى الشرق الأوسط، فكان ذلك دافعا للاعتقاد بأن موجة الانتفاضات العربية قد ذهبت بلا عودة!
إلا أنه ومنذ نهاية عام ٢٠١٨ وطوال العام الحالى، فإن موجة أخرى من حراك الشارع العربى قد انفجرت فى العديد من الدول العربية، فى الجزائر انتفض الشارع لرفض استمرار الرئيس السابق بوتفليقة فى الحكم وضغط فى اتجاه وضع معادلة جديدة للعلاقات المدنية العسكرية فى البلاد، فى السودان كانت انتفاضة أكبر أطاحت بحكم البشير وما زالت تضغط فى اتجاه عهد جديد من الحكم الديمقراطى، فى العراق انتفض الشارع ضد نظام الحكم الحالى الديمقراطى فى ظاهره، الطائفى فى حقيقته، فى مصر ورغم محدودية الحراك إلا أنه عبر عن غضب مكبوت من فواتير سياسة الإصلاح الاقتصادى وتأجيل ملف الإصلاح السياسى إلى أجل غير معلوم، ثم فى لبنان اندلعت مظاهرات ضخمة ترفض نظام المحاصصات الطائفية وتسعى إلى تشكيل عهد سياسى جديد يتخلص من زعماء الطوائف الحاليين ويشكل حكومة جديدة أكثر مسئولية وكفاءة.
***
علمتنا خبرات عام ٢٠١١ أن التسرع بالاحتفال بالنصر، أو رفع سقف التوقعات أو المبالغة فى الرومانسيات الحالمة هو أكبر ضرر قد يعوق التغيير. وبالتالى، وباستثناء النجاح التونسى الحذر وخصوصا فى ظل ضعف المؤسسات السياسية والرغبة فى انتخاب «رجل شارع»، فإن الحراك فى الجزائر والسودان ورغم تحقيقه مكاسب أولية، إلا أن العديد من المعوقات ما زالت فى الطريق، ورغم استمرار الحراك اللبنانى والعراقى، إلا أن التعقيدات الطائفية لا يجب أبدا الاستهانة بها أو تبسيطها بشكل مخل قد يؤدى إلى كوارث حقيقية مستقبلية لو لم يتم التعامل مع الملفات الطائفية هذه بحكمة وتوافق. كذلك ورغم اتخاذ الحكومة المصرية بعض الاجراءات السريعة لتخفيف العبء عن المواطنين ورغم الحديث المستمر عن الإصلاح السياسى إلا أننا مازلنا لا نشهد خطوات على الأرض لتحقيق هذا الإصلاح المنشود.
عدم التسرع بالاحتفال أو عدم رفع سقف التوقعات ليس تشاؤما أو تفاؤلا، ولكنه محاولة للتعلم من الأخطاء والتجارب والخبرات المؤلمة التى مررنا بها فى العالم العربى منذ ٢٠١١ والأهم أنها لا يجب أن تنسينا أبدا السؤال الأهم، كيف نفهم حراك الشارع العربى فى ٢٠١٩؟
كالعادة الحل الأسهل هو اتهام هذا الحراك بالمؤامرة، بالتمويل، بالخيانة والتخابر وخدمة المصالح الغربية، وهو الخطاب الذى لم يتغير للأسف حتى الآن وما زال يستخدمه بعض السياسيين العرب للدفاع عن مصالحهم ومواقعهم. الحقيقة التى يتم دائما الالتفاف حولها أو الهروب منها، هى أن المؤامرات موجودة منذ أن خلق الله الأرض ومن عليها، وأن العمل السياسى مرتبط حتما بالعمل التآمرى، فالمصالح الدولية المتعارضة والصراع على الموارد والمواقع يجعل العمل التآمرى عملا حتميا، وبالتالى فالسؤال ليس هناك مؤامرة أم لا، ولكن ما هى الأسباب التى أدت إلى هذا الحراك وقد تستغلها أو لا تستغلها دول وأجهزة غربية لتحقيق مصالحها؟
بالعودة إلى عام ٢٠١٠ أى قبل الانتفاضات العربية بشهور قليلة، كانت معظم الشعوب العربية تعانى من ثلاث مشاكل كبرى، المشكلة الأولى كانت سوء الأوضاع الاقتصادية فى ظل عدم عدالة فى توزيع الموارد رغم معدلات النمو العالية المشاد بها دوليا! ارتبطت بهذه المعضلة مشاكل أخرى مثل البطالة وضعف الأجور وارتفاع الأسعار مع تدنى مستوى الخدمات العامة من صحة وتعليم وبنية تحتية.. إلخ
المشكلة الثانية كانت تتعلق بانغلاق المساحات السياسية بين أحزاب مهمشة ونتائج انتخابات محسومة مسبقا وعدم وجود أى فرصة ليس فقط لتداول السلطة سلميا ولكن حتى للمشاركة فى عملية صنع القرار السياسى! ارتبط بهذه المشكلة غياب الشفافية والمحاسبة وانتشار الفساد ومن ثم ضعفت الثقة فى الحكومات والأنظمة السياسية الحاكمة!
أما المشكلة الثالثة والأخيرة فقد تمثلت فى السياسات الأمنية القامعة والتى أدت إلى انتشار المظالم والغضب المكتوم والخوف وجعلت استقرار النظام السياسى فقط مرتكزا على قوة قبضته الأمنية!
حينما تراجعت الانتفاضات العربية ولم تتمكن من تحقيق مطالبها، فإن القوى السياسية التقليدية العائدة إلى الساحة وعدت بالتغيير، ولكن وبعد ٨ سنوات من انتفاضات ٢٠١١، فإن الأوضاع لم تتغير كثيرا، بل أدعى أنها أصبحت أكثر سوءا! ما زالت الأسباب نفسها التى دفعت انتفاضات ٢٠١١ موجودة حتى الآن فى معظم الدول العربية، فالأوضاع الاقتصادية ليست أفضل حالا، بل إن فواتير الإصلاح السياسى أدت إلى تزايد الأعباء على كاهل المواطن العادى محدود الموارد فى وقت تخلت فيه الدول العربية عن دورها الاجتماعى التقليدى المتمثل فى الدعم والتوظيف.
كذلك فإن الأوضاع السياسية ما زالت قيد الحكم الفردى واستبعاد الأحزاب وضعف السلطات الرقابية والتشريعية لصالح التنفيذية، وفقدت الانتخابات أهميتها لأن النتائج أصبحت محسومة وفاتورة المنافسة/المعارضة السياسية الآن أصبحت حتى أعلى من فاتورة المنافسة السياسية قبل ٢٠١١ مع استمرار الرهان على القبضة الأمنية باعتبارها ركيزة شرعية النظم السياسية العربية!
ومن هنا، وطالما أن أسباب الغضب لم يتم التعامل معها بجدية، وطالما أن وعود الإصلاح لم تحقق المرجو منها، وطالما أنه لم تعد هناك منابر آمنة للتعبير عن الرأى أو حتى لتفريغ شحنة الغضب، وفى ظل تأميم المؤسسات السياسية المنوط بها تمثيل المواطنين، فيصبح الحراك العربى فى ٢٠١٩ مفهوما ومنطقيا وسواء كانت هناك قوى غربية أو شرقية تسعى لاستغلال هذا الغضب لتحقيق مصالحها أم لا، فالأساس هنا أن الغضب مفهوم والتعبير عنه مشروع، وبالتالى وبدلا من دفن الرءوس فى الرمال واستسهال حديث المؤامرة، فلابد للأنظمة العربية أن تفهم وتعى جيدا أنه لا مناص من الإصلاح، ليس استجابة لمطالب غربية أو شرقية، وليس كتنازل نتيجة لضغوط قوة عظمى هنا أو هناك، ولكن كضرورة وطنية من شأنها الحفاظ على «الدولة الوطنية» فى العالم العربى.
لماذا إذن هذا التردد والبطء فى اتخاذ قرارات الإصلاح؟ لماذا يتم إعادة استنساخ نفس الظروف التى أدت إلى الانفجارات والغضب؟ أتصور أن هناك ثلاثة أسباب لهذا التردد، السبب الأول أن مصالح بعض مؤسسات الأنظمة العربية قد تبدو متعارضة مع الإصلاح أو هكذا على الأقل يتصور القائمون على أمر هذه المؤسسات وبالتالى يحاولون تعطيل هذا الإصلاح أو فى أحسن الأحوال تأجيله، أما السبب الثانى فهو وجود تخوفات لدى صانع القرار العربى من الإصلاح وتبعاته، أما السبب الثالث فهو عدم وضوح الرؤية لدى الأنظمة العربية عن كيفية تحقيق هذا الإصلاح، أى بعبارة أخرى ربما توجد نية للإصلاح لكن الرؤية مشوشة وغير واضحة، وحتى لا يكون الحديث عن الإصلاح مجرد كلام نظرى، فسأتناول فى بعض المقالات القادمة هذه الأسباب الثلاثة وأقدم رؤيتى المتواضعة لكيفية التعامل معها.