بقلم : أحمد عبدربه
مع السنوات الأخيرة من الحرب الباردة، كانت منطقة الشرق الأوسط تشتعل مجددا وهذه المرة من الأراضى الفلسطينية المحتلة حينما قامت الانتفاضة الفلسطينية الأولى ضد الاحتلال الإسرائيلى بعد سنوات من يأس الشعب الفلسطينى من أى ضغوط دولية حقيقية لإيقاف العنف الإسرائيلى والتوسع الاستيطانى وإنهاء الاحتلال الإسرائيلى.
حاول الرئيس ريجان فى أيامه الأخيرة اقتراح مفاوضات مباشرة بين الفلسطينيين والإسرائيليين، لكن لم تلق اقتراحاته صدى لدى الطرفين وخصوصا فى ظل إصرار إسرائيل على عدم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية وتوسيع المستوطنات فى الأراضى المحتلة. وحينما تولى الرئيس بوش، فإنه حاول بدوره ومعه وزير خارجيته جيمس بيكر وضع حد للانتفاضة الفلسطينية، وتواصل مجددا مع الأطراف المعنية ومنها مصر التى كانت تلعب دورا حيويا فى العالم العربى بعد انتهاء المقاطعة العربية لها وعودتها إلى جامعة الدول العربية.
كانت الاستجابة الإسرائيلية متحفظة بعد أن أنهكت الانتفاضة إسرائيل أمنيا واقتصاديا فطالب رئيس الوزراء الإسرائيلى فى ذلك الوقت إسحاق شامير الفلسطينيين فى الضفة الغربية وغزة بعقد انتخابات لاختيار ممثل لهم فى مفاوضات محتملة مع إسرائيل، ولكنه رفض أن يكون هذا الممثل من منظمة التحرير، كما اشترط إنهاء الانتفاضة الفلسطينية أولا قبل أى مفاوضات، كذلك أعلن إسحاق شامير أن أقصى ما يمكن تقديمه للفلسطينيين هو إدارة حكم ذاتى دون التقيد بإنشاء دولة فلسطينية مستقلة!
حاولت مصر تقديم اقتراحات لإسرائيل وللإدارة الأمريكية بأسماء محتملة للتفاوض باسم الفلسطينيين وخصوصا فى ظل عدم إمكانية عقد انتخابات وسط أجواء الانتفاضة، إلا أن كل الأسماء المقترحة رفضها شامير بحجة انتمائها إلى منظمة التحرير الفلسطينية! انتقد بوش إسرائيل علنا فى تصرف أمريكى نادر بسبب بناء المزيد من المستوطنات فى الأراضى المحتلة لكن وفى مارس من عام ١٩٩١ صمم بوش ومعه جيمس بيكر على الدفع بعملية السلام، خاصة وأن الانتصار فى حرب الخليج جعل الولايات المتحدة تظهر على المسرح العالمى بشكل واضح باعتبارها القوة العظمى منفردة دون مزاحمة من أحد! فالحرب التى قادتها الولايات المتحدة وشاركتها ٣٤ دولة منها العديد من الدول العربية وفى مقدمتها مصر وسوريا جعلت المسرح الدولى مفتوحا على مصراعيه أمام الأمريكان للقيادة سياسيا وعسكريا واقتصاديا.
ومن هنا ألقى بوش خطابا أمام الكونجرس وأعلن عن نيته الدفع بعملية سلام شامل بين الدول العربية وبين إسرائيل!
• • •
على مدى الأشهر السبعة التالية للخطاب قام بيكر بزيارات متعددة للشرق الأوسط محاولا إقناع كل الأطراف المعنية بالجلوس مباشرة على مائدة المفاوضات، وبينما كانت تتجاوب الدول العربية وفى مقدمتها فلسطين والأردن وسوريا، فضلا عن دعم مصر المحورى للجهود الأمريكية باعتبارها الدولة العربية ــ حتى لحظتها ــ التى أقامت علاقات دبلوماسية مباشرة مع إسرائيل بعد توقيع معاهدة السلام قبل ذلك بسنوات، إلا أن إسحاق شامير أخذ فى المماطلة!
لم يكن بوش ليسمح بفشل جهوده، فهو كان يعرف جيدا أن الفشل فى عقد محادثات السلام يعنى فشل بلاده فى أول اختبار باعتبارها القطب الأوحد، ومن هنا قام الأخير بإيقاف مساعدات كانت فى طريقها لإسرائيل بقيمة ١٠ مليارات دولار للمساعدة فى توطين اليهود السوفييت الذين هاجروا إلى إسرائيل بعد سقوط الاتحاد السوفيتى، فلم يجد شامير بدا من الموافقة على حضور مؤتمر السلام بمدريد بمشاركة وفد يمثل منظمة التحرير الفلسطينية!
لكن وبسبب الاعتراضات الإسرائيلية المتوالية على الأسماء المرشحة لتمثيل الوفد الفلسطينى، فقد تم الاتفاق على وجود وفد فلسطينى/ أردنى مشترك. بالإضافة لوفود مصر ولبنان وسوريا وإسرائيل بالإضافة إلى جورج بوش وميخائيل جورباتشوف فى ظل ضيافة من الحكومة الإسبانية.
كان لقاء غير مسبوق تاريخيا بين الوفود العربية ــ عدا مصر ــ والوفد الإسرائيلى مما عزز التوقعات بأن ثمة تاريخا جديدا يكتب فى الشرق الأوسط! استمر مؤتمر مدريد من ٣٠ أكتوبر وحتى ٤ نوفمبر، ولكنه لم يسفر عن الكثير، فقد تمسكت كل الوفود بمواقفها التقليدية، ولكن تم اعتبار المؤتمر بداية لبناء الثقة المتبادلة وتم الاتفاق على استمرار المفاوضات الثنائية والمتعددة بين كل الأطراف والتى استمرت لعدة شهور حتى تم توقيع اتفاقيات أوسلو ١ و٢ فى واشنطن وطابا بين عامى ١٩٩٣و ١٩٩٥ وتم اعتبار هذه الاتفاقيات هى البداية الحقيقية لعملية السلام وخاصة بعد أن اتفق الطرفان الإسرائيلى والفلسطينى على الاعتراف ببعضهما البعض، فاعترفت السلطة الفلسطينية بدولة إسرائيل واعترفت الأخيرة بالسلطة الفلسطينية كممثل للشعب الفلسطينى فى المفاوضات.
قامت اتفاقيات أوسلو على مبدأ حق الفلسطينيين فى تقرير مصيرهم وعلى الاعتراف بحق إسرائيل فى الوجود واعتمدت قرارات مجلس الأمن ٢٤٢ (انسحاب إسرائيل من الأراضى التى احتلها عام ١٩٦٧) و٣٣٨ (إيقاف إطلاق النار بين العرب وإسرائيل والدخول فى مفاوضات سلام)، كما قامت الاتفاقيات بتقسيم الضفة الغربية المحتلة إلى المناطق إيه، بى، سى، حيث تسيطر السلطة الفلسطينية على المنطقة إيه، بينما تتشارك مع إسرائيل فى إدارة المنطقة بى، بينما تدير إسرائيل منفردة المنطقة سى والتى تحوى المستوطنات الإسرائيلية، لكن فشل الطرفان فى التوصل إلى أى اتفاقات بخصوص حق اللاجئين الفلسطينيين فى العودة، ووضع مدينة القدس بالإضافة إلى مشاكل أخرى تتعلق بحدود الدولة الفلسطينية التى كان من المزمع إقامتها باتفاقية سلام شامل بين الطرفين!
• • •
بعد أسابيع قليلة من اتفاق أوسلو ٢ (عُرف أيضا باسم اتفاق طابا) تعرض إسحق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلى للاغتيال على يد شاب يمينى متطرف يدعى إيجال عامير وهو من اليمين الدينى المحافظ الذى رفض اتفاقية أوسلو واعتبرها تنازلا عن الحقوق التوراتية لليهود فى الأراضى الفلسطينية!
منذ اغتيال رابين، تصاعد التيار اليمينى السياسى الإسرائيلى بقيادة شخصيات مثل بنيامين نتنياهو وإيريل شارون وقد وصل كلاهما إلى رئاسة الوزراء فى السنوات التى تلت اغتيال رابين وتحت إدارتهما كان التعنت الإسرائيلى الذى قتل عملية السلام ولاحقا تسبب فى انطلاق الانتفاضة الفلسطينية الثانية، ورغم محاولات الولايات المتحدة إلا أنها لم تنجح فى تغيير الأوضاع على الأرض لتنتهى عملية السلام وتنتهى معها آمال إقامة السلام التى سارت بين الأوساط الدبلوماسية العالمية خلال حقبة التسعينيات.