بقلم : أحمد عبدربه
فى حين كانت الفترة التالية للحرب العالمية الثانية وحتى ثورات الربيع العربى هى العصر الذهبى للنظم الديموقراطية، حيث اكتسحت الديموقراطية (فكرا وتطبيقا) العالم فى عدة موجات أبرزها موجة ترتيبات ما بعد الحرب العالمية الثانية والتى تم فيها تقليم أظافر دول المحور المهزومة (اليابان، ألمانيا، إيطاليا)، واكتساب أصدقاء للنظم الغربية الديموقراطية الليبرالية من أجل احتواء الشيوعية فى آسيا وأوروبا، ثم موجة ثانية تم فيها اكتساب حلفاء جدد للديموقراطية بعد انتفاء سبب دعم النظم السلطوية العسكرية الموالية للغرب فى أمريكا الجنوبية وذلك بعد ترنح الاتحاد السوفيتى وتغير وجه ومحتوى الشيوعية الصينية بعد وفاة ماو تسى تونج وصعود دينج تشاو بينج ومن بعده جروباتشوف، ثم فى ضربة ثالثة للسلطوية بعد انهيار الاتحاد السوفيتى رسميا وتساقط الأنظمة السلطوية فى شرق أوروبا تباعا، فإن الربيع العربى والذى بدا وكأنه موجة رابعة لانتشار الديموقراطية وانهزام السلطوية فى أقل مناطق العالم ديموقراطية وانفتاحا (العالم العربى)، لم يكن فى الواقع إلا نقطة فاصلة فى التاريخ بحيث كان أحد مسببات بداية الأفول الديموقراطى وبداية موجات تبدو لى منتظمة لعودة النظم السلطوية لتضرب بقوة مرة أخرى، بحيث إننى أدعى أننا نشهد الآن الموجة الأولى للتحول السلطوى (عودة النظم السلطوية فكرا وتطبيقا على حساب الديموقراطية) وأنها ربما تكون مجرد بداية لموجات تالية ستنهزم فيها الديموقراطيات العالمية (بما فيها تلك الراسخة) تواليا.
***
الحديث عن بداية الأفول الديموقراطى والعودة التدريجية للسلطوية بدأ مع بداية الألفية الثالثة وهناك العديد من العلماء الذين تحدثوا عن المخاطر التى تتعرض لها النظم الديموقراطية حتى فى أوروبا الغربية حيث انتشرت الموجات الأولى للديموقراطية فى القرن التاسع عشر! ولعل أشهر هؤلاء العلماء هم «كولن كرواتش» الذى كتب عن عصر «ما بعد الديموقراطية» منتقدا الأسس الرأسمالية للنظم الديموقراطية والتى جعلتها تبدو وكأنها شركة كبيرة تبحث عن الربح على حساب المستهلكين (الناخبين) عن طريق بيع منتجات وهمية متشابهة (البرامج الانتخابية)، بواسطة شركات دعاية متميزة (الأحزاب السياسية)، ورغم أن تحليل كراوتش تم اتهامه بالتحيز الأيديولوجى بحيث كان التحليل منصبا على انتقاد المحتوى الرأسمالى للنظم الديموقراطية، إلا أن عصر الأفول الديموقراطى قد بدأ بالفعل ربما لأسباب أوسع من مجرد الحديث عن الرأسمالية ومثالبها، ولكنه أصبح أمرا واقعا!
***
هذا الأفول الديموقراطى ربما بدأ بوضوح مع انتشار الهواجس الأمنية فى مطلع الألفية وخصوصا بعد هجمات ١١ سبتمبر، إلا أنه استمر فى التطور التدريجى مع ضرب الفساد للمؤسسات السياسية الديموقراطية فى شرق وجنوب شرق آسيا، فى أمريكا اللاتينية، ثم فى شرق أوروبا. واصل هذا التصاعد السلطوى تسلقه التدريجى مع الأزمات الاقتصادية العالمية فى نهاية العقد الأول من الألفية والتى عرت وبقوة ليس فقط ضعف النظم الرأسمالية المعولمة، ولكن أيضا عجز الأنظمة الديموقراطية على توفير الحماية والدعم الاجتماعى والمالى لمواطنيها داخل الحدود القومية وظهور مدى اختراق أباطرة رأس المال للنخب السياسية الديموقراطية وتحكمها فى أجنداتها ومؤسساتها وخطابها، ثم ضربت السلطوية بقوة لتدشن وبحق موجتها الأولى مع الهزيمة السريعة التى منيت بها ما بدا أنه موجة رابعة للتحول الديموقراطى (ثورات الربيع العربى) ولاسيما فى اليمن وسوريا وليببا والبحرين. كانت بداية تغيير المعادلة فى المنطقة من مصر ثم بدأت موجة التحول السلطوى من تعضيد نفسها مع تأييد التراجع عن طريق الديموقراطية فى المنطقة من قبل دول الخليج العربى النافذة ثم تدريجيا من دول الغرب الأوروبى بالإضافة للولايات المتحدة الأمريكية، ومع انتشار مشاكل الأمن والهوية على خلفية موجات الإرهاب العالمى وأزمات الهجرة واللاجئين مع ارتفاع معدلات الفقر والبطالة وتردى النظم الصحية حتى فى الدول المتقدمة، وفى مقابل ذلك كان الصعود الصينى الرهيب على مسرح السياسة والاقتصاد العالميين ومغازلة منطق السلطوية التنموية الرأسمالية الصينية للعالم مما جعل مهمة قراءة مؤشرات الموجة الأولى للسلطوية أكثر قوة ووضوحا.
نحن الآن أمام أربعة مؤشرات واضحة لهذا التحول السلطوى:
المؤشر الأول متمثل فى تراجع الرضاء الشعبى عن أداء النظم الديموقراطية التى تحولت مع الموجتين الثانية والثالثة للديموقراطية وتحديدا فى شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية وخصوصا مع انتشار الفساد وسيطرة نخب بعينها على عملية صنع القرار مع انتقادات موسعة لآليات توزيع الموارد والثروات والتى تسببت فى تردى مستويات المعيشة وارتفاع معدلات البطالة مع انتقادات متزايدة لأداء المؤسسات السياسية الديموقراطية تحديدا فى بلغاريا والمجر ورومانيا والبرازيل وخصوصا فى السنوات الخمس الفائتة.
المؤشر الثانى يتمثل فى تراجع أداء نظم الموجة الأولى للتحول الديموقراطى (أوروبا الغربية) وعجز عدد من هذه النظم عن مقاومة التسلط الرأسمالى مع عدم القدرة على التمييز بين محتوى السياسات الذى تطرحه الأحزاب من اليمين واليسار مع وجود شغف شعبى يتزايد تدريجيا (حتى لو ببطء) لتأييد الديموقراطيات الشعبوية على حساب نظيراتها الليبرالية وخصوصا مع سأم المزاج الشعبى فى بعض هذه الدول من الأداء التقليدى للسياسيين المعتكفين خلف المكاتب والميل لتأييد القادة الشعبويين وعلى الرغم ــ مثلا ــ من أن الرئيس الأمريكى ترامب يبدو على النقيض من رئيس الوزراء الكندى جاستين ترودو إلا أن كليهما يلعب على وتر الشعبوية على حساب المأسسة للحفاظ على الشعبية فى الدولتين الجارتين ولهذا حديث لاحق.
أما المؤشر الثالث فيتمثل فى نجاح السلطويات الشرق أوسطية فى هزيمة الثورات الشعبية ومغازلة النموذج السلطوى التحديثى لشعوب هذه المنطقة على هامش نزاعات طائفية وتعصبات قبلية وتخوفات أمنية وخصوصا فى الدول الأبرز فى المنطقة (سياسات إسرائيل الاستعمارية رغم ديموقراطيتها المعترف بها من قبل بعض المؤشرات الغربية، انقلاب أردوغان المدنى رغم ديموقراطيته المفترضة، هيمنة النماذج السلطوية التحديثية فى السعودية والإمارات والسلطوية التنموية فى مصر مع دعم غربى معتبر للأنظمة الثلاثة، واستمرار نظام الملالى السلطوى القمعى فى إيران وقدرته على الحفاظ على استمراره رغم كل التقلبات الدولية والإقليمية).
ثم يأتى المؤشر الرابع متمثلا فى الصعود الصينى والروسى على مسرح السياسة العالمية. هذا التصاعد الذى تم هندسته بنظم قمعية شمولية ووصل لذروته مع بوتين فى روسيا وشى جين بينغ فى الصين. يقوم الأخير بتنصيب نفسه كماو آخر بعد أن قام بكتابة اسمه وأيديولوجيته وأفكاره الخاصة فى دستور الحزب الشيوعى الصينى أكتوبر الماضى (لم يجرؤ على فعل هذا حيا سوى ماو تسى تونج)، ثم هو الآن يقوم بتغيير دستور الدولة ليجعل فترات الرئاسة مفتوحة بعد أن كان الدستور قد حددها بفترتين فقط بعد وفاة ماو، وتصاعد النموذج الأمنى المخابراتى فى روسيا على يد بوتين. كلا الرئيسين (بوتين وشى جين)، لا يستهينان فقط بالنظم الديموقراطية الغربية ولكنهما أيضا يؤسسان بقوة لنموذج عالمى جديد يحصد الإعجاب والتأييد والتقليد فى آسيا وشرق أوروبا والشرق الأوسط بل وادعى أن له أصداء قوية فى إفريقيا وأوروبا الغربية.
***
هذه المؤشرات الأربعة لا تعنى فقط أن «الديموقراطية فى خطر»، فهذه عبارة شديدة المحافظة بل وشديدة الانفصال عن الواقع، ولكن تعنى أننا أمام موجة تحول سلطوى حقيقى تتوغل وتفرض منطقها على مسرح السياسة الدولية وتكتسب كل يوم فاعلين جدد بل وتغير من طبيعة وأداء النظم الغربية نفسها فتدفع الأخيرة نحو الشعوبية وربما لاحقا السلطوية، صحيح أن المؤسسات الديموقراطية فى نظم أوروبا الغربية وأمريكا الشمالية وخصوصا التشريعية والقضائية بالإضافة إلى المجتمع المدنى تجاهد للمقاومة، ولكن قدرتهم على الاستمرار أصبحت موضع شك مستمر!
ما الذى هزم الديموقراطية وأعاد السلطوية من جديد للنظام الدولى؟ هذا ما سأحاول الإجابة عليه خلال مجموعة من المقالات المتصلة أو المنفصلة بحسب ظروف النشر ومساحته.
نقلا عن الشروق القاهرية