فور إعلان الهيئة الوطنية للانتخابات عن جدول الانتخابات الرئاسية، ظهر امتعاض واضح من المهتمين بالشأن العام المصرى كون أن المدة المحددة للترشح محدودة مع مطالب صعبة من المرشحين متمثلة فيما حدده الدستور المصرى فى المواد ١٤٠، ١٤١، ١٤٢ وما نظمه القانون رقم ٢٢ لسنة ٢٠١٤ بضرورة الحصول على تزكية عشرين عضوا من أعضاء مجلس النواب، أو الحصول على تأييد خمسة وعشرين ألف مواطن ممن لهم حق الانتخاب فى خمس عشرة محافظة على الأقل وبحد أدنى ألف مواطن من كل محافظة.
فيما اتهم مؤيدو النظام المعارضين بعدم الجاهزية وعدم الجدية حتى أن أحدهم قد قال إن المرشحين كان لابد وأن يكونوا جاهزين قبل عام كامل! الحقيقة أن هذا الكلام فيه قدر كبير من الصحة، فمن المفترض بالفعل أن المرشحين المحتملين قد جهزوا أنفسهم منذ عام وربما أكثر، كما أن المدة المحددة للترشح (١٠ أيام)، ولجمع التزكيات البرلمانية أو تأييد المواطنين (ثلاثة أسابيع بحد أقصى) مدة تبدو معقولة، ولكن كيف ومتى؟
***
لعبة الانتخابات فى العصر الحديث هى بالأساس لعبة حزبية، فكل دول العالم الحديث الأصل فى العمل السياسى والانتخابى تحديدا فيها هو التعويل على الأحزاب السياسية، والأخيرة بدورها ترتبط بمجموعات دعم مالى وجماعات ضغط توفر تكلفة التعبئة والتنظيم وغيرها من لوازم الحملات الانتخابية. هذه الأحزاب والجماعات والمؤسسات الأخرى المرتبطة بها تستطيع توفير عشرات الآلاف إن لم يكن الملايين من الأصوات فى ساعات أو أيام معدودة، لكن أين تقف الأحزاب المصرية من كل ذلك؟
الحقيقة أن المشكلة الرئيسية فى مصر ليست فى عدد أيام التزكية أو التأييد ولا حتى فى عدد الأصوات اللازمة لذلك، ولكن فى الكيفية التى سيتم بها كل هذا. ضعف الأحزاب السياسية هى أحد الأسباب الرئيسية لكل هذا اللغط الانتخابى، فباستثناء الفترة بين ٢٠١١ و ٢٠١٣ فإن السمة العامة للأحزاب المصرية هى هامشية التأثير على المشهد السياسى ولاسيما المشهد الانتخابى!
ونحن مقبلون على الانتخابات الرئاسية فى خلال أسابيع، فإن الترشيح فى مصر بالأساس قائم على المبادرات الفردية مع دور محدود للأحزاب فى الحشد والتنظيم. فأى مرشح ينتوى دخول المعترك الانتخابى خلال الأيام القليلة الماضية يواجه تحديات غير عادية ليس للمنافسة على الانتخابات بل لمجرد الحصول على الأصوات اللازمة للتزكية أو التأييد! لكن من المسئول عن ضعف وهامشية وضع الأحزاب السياسية؟
السؤال الأخير معقد بكل تأكيد ولا توجد إجابة سلسة عليه، فجزء من المشكلة قد تكون عائدة لأعضاء الأحزاب غير النشطين من راغبى المكاسب السريعة، وسبب آخر قد يكون متعلقا بقيادات الأحزاب الهرمة ممن يفتقدون الثقافة الديمقراطية، أو حتى لسبب أكبر متعلق بغياب الثقافة الحزبية من المشهد المصرى، لكن الأهم من كل ذلك هو القيود المتعلقة بالعمل الحزبى وخصوصا حال تواصل الأخيرة مع الشارع. والضغوط التى تعرض لها بعض الكوادر الحزبية أخيرا والتى طالت البعض بالحبس والآخر بالتشويه الإعلامى والثالث بالتهديد المباشر وغير المباشر خير دليل على ذلك. لاشك أن هذه الظروف جميعا هى السبب الرئيسى فى ابتعاد الأحزاب عن الشارع ومن ثم على محدودية دورها فى المشهد السياسى الكلى عموما والانتخابى خصوصا.
***
المطلوب من المرشحين المحتملين فى هذا الوضع المضغوط إذن هو اللجوء إلى الحلول الفردية والمبادرات الشخصية من أجل تجميع الأصوات مع الاعتماد على وسائل التواصل الاجتماعى لتوفير بعض الدعم فى الحشد والتأييد، ومن هنا تتضح الرؤية أكثر، فضعف المنافسة على مقعد الرئاسة ــ بفرض وجود منافسة من الأصل ــ لا يعود لعدم استعداد المرشحين أو عدم جديتهم ولكن يعود لهامشية دور الأحزاب السياسية فى المشهد السياسى المصرى، فالأحزاب المنوط بها قيادة الحملات الانتخابية وتوفير الدعم المادى والسياسى للمرشحين غير قادرة فى ظل الضغوط السياسية والأمنية التى تتعرض لها على مجرد محاولة التواصل مع الشارع، وحتى تلك التى تنجح فى الحد الأدنى من التواصل مع الجماهير تفعل ذلك بمبادرات ومخاطرات فردية قد تدفع ثمنا غاليا لها مستقبلا.
والخسارة الأكبر من هذا الدور الهامشى محدود التأثير ليس فقط فى صعوبات الحشد والتنظيم والدعم، ولكن أيضا فى غياب البرامج الانتخابية والأيديولوجيات السياسية والتى كانت وما زالت جزءا لا يتجزأ من آليات العمل السياسى الحديث. فنحن وقبل أسابيع قليلة من موعد إجراء الجولة الأولى للانتخابات الرئاسية ــ أخذا فى الاعتبار أنه من غير المتصور فى الظروف الحالية أننا سنكون فى حاجة من الأصل لجولة ثانية ــ لا نتحدث عن برامج ولا عن أيديولوجيات ولا عن منافسات ولا عن توقيتات التنفيذ ولا حتى عن تقييم ما مضى، نحن فقط نتحدث عن معارك توكيلات وفرص الوصول للجولة الأولى من عدمها وما إذا كنا سنشهد استفتاء أم انتخابات شكلية!
هذا كله يعنى تفريغ الحياة السياسية من أى مضمون ويعنى أننا ندفع المواطنين دفعا للانسحاب من الشأن العام، وقد تبدو هذه أخبار مفرحة بالفعل لتيارات «مصر تمر بمرحلة استثنائية»، أو أنه لا يصلح أحد لحكم مصر سوى الرئيس السيسى، أو كما قال أحد المرشحين المحتملين للرئاسة بعد أن ملأ الدنيا ضجيجا عن ضغوط أمنية تتعرض لها المقرات التى يرغب فى عقد مؤتمر إعلان ترشحه فيها «نتمنى فوز الرئيس السيسى بالانتخابات ولكن من حقنا الترشح»! أقول إنها أخبار تبدو مفرحة لأنصار هذا التيار الذى يسعى بالفعل لإماتة السياسة فى مصر بحثا عن مصالح ضيقة ووقتية، ولكنها فى نفس الوقت أخبار سيئة لمصر المستقبل لأن الإصرار على إماتة السياسة عن طريق تهميش الأحزاب ومن قبلها تقييد المجتمع المدنى تعنى أن الرغبة فى التعبير عن الغضب المتراكم من السياسات الحالية والسابقة أو الإفصاح عن أفكار وأيديولوجيات مخالفة للسلطة سوف تبقى بعيدا عن السطح، فى الظلام، بدون مأسسة أو تنظيم، فتنفجر فى لحظة زمنية بشكل عشوائى مدمر، وهذا ليس على سبيل التهويل أو التهديد، ولكنها طبيعة المجتمعات السياسية التى تعيش تحت ضغوط سياسية وأمنية مختلفة فهكذا يقول التاريخ دائما.
***
المشهد الانتخابى يبدو بائسا على الأقل حتى اللحظة، والغموض مازال سيد الموقف بخصوص مستقبل الانتخابات التى سنشهدها بعد أسابيع قليلة، والأحزاب مازالت مستبعدة، والإعلام ــ باستثناءات محدودة ــ بدأ يأخذ موقفه المعتاد المنحاز للرئيس، متحججا بأنه لا توجد منافسة حتى يغطيها! ولن يقول لك أحد قطعا سبب غياب هذه المنافسة لأنه سيقع فى حرج!
على الصعيد الشخصى لست متحمسا للانشغال كثيرا بهذه الانتخابات لأنى مازلت أراها مجرد استفتاء على الرئيس، ولكن فى الوقت نفسه لا يمكن إلا تقديم كل التحية والاحترام لمن يواصل المحاولة السلمية التى يكفلها الدستور والقانون لتداول السلطة، ورغم أن هؤلاء الناشطين يعرفون النتيجة مقدما، ويعرفون جيدا أنه لا تداول محتملا للسلطة على الأقل فى الأجل القريب، إلا أنهم يحاولون الإبقاء على مساحة الأمل فى وجود هامش سياسى يسمح لهم بالنبض السياسى بدلا من أن تموت السياسة تماما فننجر إلى ما لا يحمد عقباه.