بقلم : عطيــة عيســوى
بعد عشرات السنين من تفكير المستكشفين وقادة النضال ضد الاستعمار وسعيهم لربط دول إفريقيا اقتصادياً ومحاولات إقليمية عديدة لتأسيس سوق اقتصادية إفريقية مشتركة، وقَّعت 44 دولة الأربعاء الماضى فى رواندا اتفاقية التجارة الحرة التى إذا تم تنفيذها ستشكل الدول الأعضاء فيها واحداً من أضخم التكتلات التجارية فى العالم يرفع حجم التجارة البينية بينها من نحو 14% إلى 30% من حجم تجارتها الخارجية، ويخفض تكلفة السلع والخدمات بمقدار تريليون دولار، ويجلب المزيد من الاستثمارات الأجنبية التى تحتاجها بشدة ويتيح المزيد من فرص العمل لملايين العاطلين الذين تعج بهم القارة السمراء.
لكن نجاح هذه الخطوة مرهون بوجود إرادة سياسية قوية وبتنفيذها فى مدة زمنية معقولة وبإصرار من الحكومات على تذليل العقبات وبعدم التحايل على بنودها بإقامة حواجز جديدة بدلاً من التى يتم رفعها أوتخفيفها بدعوى حماية الاقتصاد الوطنى من الإغراق أو الأمن القومى من العمالة الوافدة. فلو حدث ذلك على نطاق واسع سيخبو الأمل ويدب اليأس وينصرف المستثمرون الأجانب وربما يهرب المحليون بأموالهم إلى خارج القارة لاستثمارها فى البيئة المناسبة، وتبقى الاقتصادات الإفريقية قائمة على تصدير المواد الخام والمحاصيل الزراعية بأبخس الأثمان دون مصانع تٌقام لتصنيع ولو جزءا منها لرفع ثمنها والاستغناء بها عن الاستيراد بالعملة الصعبة الشحيحة أصلاً ودون توفير فرص عمل جديدة للملايين الذين ينضمون لسوق العمل سنوياً فتحدث الاضطرابات والاحتجاجات معرِّضةً الأمن القومى للخطر.كما يجب أن يضع القادة فى أذهانهم أن عدد السكان سيتضاعف إلى 2٫5 مليار نسمة بحلول عام 2050 معظمهم شباب يحتاجون لوظائف وتتزايد تطلعاتهم التى إن لم يتحقق الحد الأدنى منها سيسخطون وتزداد احتجاجاتهم وقلاقلهم ولجوؤهم للتخريب.
الاتفاقية التى مازالت تحتاج لتصديق برلمانات الدول الموقِّعة عليها لتنفيذها تنشىء سوقاً تجارية حرة تُلغى أوتُخفف الحواجز التجارية داخلها مثل التعريفة الجمركية وحصص الاستيراد المحددة سلفاً، وتسمح بتدفق السلع والخدمات والعاملين بين الدول الأعضاء وتساعد على نمو الاستثمارات خاصةً فى مجال الصناعة لأنها ستتيح للمستثمرين تسويق منتجات مصانعهم فى دول عديدة وليس فقط بالدولة المُقامة فيها فتصبح ذات جدوى اقتصادية أكبر ويمكن أن يحتذى بهم المزيد من المستثمرين فينفتح الباب أمام البنوك لإقراضهم مؤدياً إلى تحرير نشاط التمويل والوصول إلى المزيد من مصادره فتتدفق استثمارات إضافية.فحجم الاستثمارات الأجنبية لدى القارة مازال ضعيفاً إذا قورن به فى دول آسيا أوأمريكا اللاتينية.وكان الأمل أن يستفيد من الاتفاقية 1٫2 مليار إفريقى بدخل إجمالى يُقدَّر بنحو 2,5 تريليون دولار حيث يأمل المتحمسون أن تُطبق خلال ستة أشهر من التصديق عليها، ويحدو بعضهم الأمل أن يؤدى تنفيذها إلى اتخاذ خطوات أخرى على غرار الاتحاد الأوروبى مثل توحيد التعريفة الجمركية والعُملة وإقامة سوق مشتركة دون أن يأخذوا فى الاعتبار أن ما تم فى الاتحاد الأوروبى احتاج إلى عشرات السنين من المفاوضات المتدرجة مع توافر إرادة سياسية قوية وضغط شعبى جارف قد لا يتوافران بالقدر نفسه فى إفريقيا لأسباب لا تتسع لها هذه المساحة فضلاً عن عدم توافر البنية التحتية اللازمة لتحقيق مثل هذا الطموح.
العقبات كثيرة أمام الاتفاقية..فحالة الطرق البرية والسكك الحديدية وشركات الطيران ــ إن وُجدت ــ والمطارات سيئة وهو ما حال دون تحقيق الهدف من قبل، فضلاً عن الصراعات العرقية والحروب الأهلية والانعدام شبه التام للأمن وانتشار عصابات قطع الطرق التى تهدد انتقال السلع عبر الحدود، وتنهب بعضها..ولم توقع عشر دول إفريقية على الاتفاقية ووافقت 27 دولة فقط تمثل نصف عدد دول إفريقيا على حرية حركة كاملة للسلع والخدمات والأفراد عبر الحدود وفى اللحظة الأخيرة تراجعت نيجيريا صاحبة أضخم اقتصاد وعدد سكان (190 مليوناً)وسوق استهلاكية فى القارة عن التوقيع مما قد يشجع دولاً أخرى على عدم الانضمام للاتفاقية أو حتى الانسحاب منها وفقاً لتغيُّر القادة والسياسات.كما أن انخفاض نسبة التصنيع يجعل دول القارة تعتمد على استيراد حاجياتها من خارجها لاشتراكها جميعاً تقريباً فى تصدير انتاجها كمواد خام مما يقلل فرص التبادل السلعي،ويمكن أن تلتف بعض الحكومات على بنود الاتفاقية بفرض جمارك ورسوم دخول من نوع آخر أو برفض دخول سلع معينة لأسباب صحية أوخشية الإغراق ومنع قدوم أفراد وخدمات من دول إفريقية معينة بدعوى حماية الأمن القومي.وهناك مخاوف من أن تستغل دول غير إفريقية نظم الاستيراد الضعيفة لدى دول إفريقية معينة كنقطة انطلاق لجلب سلع أرخص إلى بقية الدول الأعضاء فى الاتفاقية تغرقها تجارياً وتقتل الصناعة الوطنية الضعيفة لديها ومعها فرص العمل القليلة القائمة التى يتكالب عليها العاطلون الأفارقة.وربما هذا هو ما دفع اتحاد العمال النيجيرى للضغط على الرئيس محمد بخارى لعدم توقيع الاتفاقية خشية زيادة عدد العاطلين البالغ 11٫5 مليون يمثلون أكثر من 14% من قوة العمل لدرجة أن 700 ألف نيجيرى هرعوا للتقدم لشغل 500 وظيفة فقط فى إحدى المسابقات قبل شهور!.ومع ذلك فهى إنجاز تتعلق به قلوب الأفارقة.
نقلاً عن الآهرام القاهرية