بقلم : عطيــة عيســوى
فى خمسينيات وستينيات القرن الماضى أثبتت قوة مصر الناعمة فعاليتها فى الحفاظ على مصالحها الأمنية والإستراتيجية والاقتصادية فى إفريقيا وهاهى تحاول بدأب منذ ثورة 30 يونيو أن تستعيد دورها الذى توارى نسبياً بعد ذلك محققةً بعض النجاح بتحسين علاقاتها مع الدول الإفريقية وكبح أى محاولة للإضرار بمصالحها وتوثيق الروابط أكثر بين شعبها وبقية شعوب القارة.ومع ذلك يحتاج تحقيق الهدف الكامل لأن نبذل جهوداً حثيثة ونقدم تضحيات مادية بقدر ما نستطيع.
فى الماضى تعلقت آمال الشعوب الإفريقية فى الاستقلال والتنمية على مساعدة مصر لحركات التحرر والتنمية ووقفتها بحزم فى وجه محاولات الاستغلال الاستعمارية لمواردها فكانت عند حُسن الظن بها وتلقت فى المقابل التقدير ومساندة القضايا العربية فى المحافل الدولية سواءً قضية فلسطين أوالاحتلال الإسرائيلى لسيناء والجولان وجزء من الأردن، والامتناع عن أى تصرف يضر بمصالحها حتى وإن كانت لا توافق على تصرف معين. فجوليوس نيريرى وجومو كينياتا قائدا الاستقلال فى تنزانيا وكينيا ومعهما هيلاسيلاسى امبراطور إثيوبيا أبدوا عدم موافقتهم على اتفاقيات مياه النيل الموقَّعة فى عهد الاستعمار واتفاقية 1959 المقسِّمة للمياه بين مصر والسودان ومع ذلك لم يتخذ أى منهم إجراءً واحداً يغضب عبدالناصر أو يضر بمصر التى استضافت حركات التحرر الإفريقية ودربت أفرادها وأمدتهم بالسلاح وأقامت المدارس والمعاهد الأزهرية وزودتها بالمعلمين والوعاظ والمستشفيات ووفرت لها الأطباء والمستلزمات الضرورية وقدمت المنح التدريبية والدراسية للأفارقة فى كل المجالات..هى التى أنقذت شعب الصومال من محاولة استغلال دنيئة من شركات إيطالية أرادت أن تشترى محصول الموز الصومالى الفاخر بأبخس الأسعار فتدخل عبدالناصر وعرض شراءه فتراجع الإيطاليون واشتروه بقيمته الحقيقية، وهى التى أقامت خط انتاج مخصوصاً للقماش يناسب أبناء شعوب إفريقية مثل نيجيريا لإعفائهم من الاحتكار والابتزاز فكان المردود ضخماً جعل الأفارقة يطلقون أسماء ناصر والقاهرة والسويس على ميادين وشوارع رئيسية فى عواصمهم ومدنهم الكبيرة بل سمَّى بعضهم أبناء لهم باسم عبدالناصر.
ذكَّرتنى بذلك الحفاوة البالغة التى استقبل بها مواطنو جنوب السودان قسم غسيل الكُلى الذى أهدته مصر لمستشفى جوبا التعليمى خلال زيارة وزير الخارجية سامح شكرى مع إرسال وفد طبى لتشغيلها وتدريب طاقم جنوبى على تشغيله وإرسال قافلة طبية مصرية متخصصة فى الرمد والناسور إلى مدينة واو.المساعدات التى أعرب الرئيس سيلفا كير عن تقديره البالغ لها ولوقوف القاهرة إلى جانب شعبه ولاتصالاتها الدبلوماسية مع الأطراف الفعالة فى المجتمع الدولى لتأكيد أهمية دعم الاستقرار والمصالحة الوطنية بين أبنائه واستضافتها مباحثات لإعادة توحيد صفوف الحركة الشعبية وتدشين لجنة تسيير الحوار الوطنى وتدريب قياداتها بالقاهرة وتوفير خبير مصرى لتقديم الدعم الفنى لها جاءت ضمن استراتيجية تبنتها مصر عقب اتفاق سلام 2005 لدعم جهود التنمية بإقامة مشروعات فى مجالات متعددة، من بينها أربع محطات لتوليد الكهرباء وعدد كبير من المدارس والعيادات الطبية وتدريب الكوادر وإرسال قوافل طبية وتطهير قنوات الري. كما اقترح شكرى إنشاء مزارع سمكية ومركز ثقافى مصرى فى جوبا وعقد دورات تدريبية فى مجالات الأمن والدبلوماسية والتعليم والصحة والرى وحفر آبار مياه جوفية فى المناطق الجافة والمحرومة.
هذه المبادرات هى التى نجحت فى جعل جنوب السودان لا يوقع على اتفاقية عنتيبى التى تضر بحقوق مصر المكتسبة فى مياه النيل مثلما أثمر التعاون والمساعدات المصرية عن امتناع الكونغو الديمقراطية عن التوقيع عليها،وحتى وقت قريب كانت عيادة مصر الطبية فى العاصمة كينشاسا أشهر من النار على العلم تقدم خدماتها بأسعار رمزية ويؤمها المرضى من أنحاء البلاد قبل أن يُتوفى مديرها الطبيب المصرى وسط حسرة بالغة لدى الكونغوليين.ولم يقل اهتمام مصر بمساعدة كينيا التى زارها شكرى أيضاً عنه بجنوب السودان سواء بالدعم السياسى والتنموى أو بحفر عشرات من آبار المياه الجوفية فى المناطق المحرومة مما جعل الرئيس أوهورو كينياتا يعرب عن تقديره لقيام الرئيس السيسى بدعم بلاده خلال أزمتها السياسية الأخيرة وتلقيه اتصالات دورية منه للاطمئنان وحرصه على استقرارها،وأكد التزام كينيا بالعمل مع مصر لتحقيق التوافق والمكاسب المشتركة لكل دول حوض النيل وبقواعد القانون الدولى وعدم الإضرار بأى طرف.
هذا ما يتعلق فقط بالدولتين محل الزيارة لأن المساعدات المصرية عديدة ومتنوعة للدول الإفريقية ولكى تصبح الفائدة أعظم يتعين التركيز على المساعدات الإنسانية وقت الشدة لأنها هى التى تَبقى بأذهان الشعوب والإسراع بتقديم المساعدات الطبية وتنظيم القوافل لمعالجة الأمراض التى يعانى منها السواد الأعظم من الأفارقة مثل الملاريا والكوليرا والعمى ونقل بعضهم للعلاج فى مصر وإنشاء المستشفيات والعيادات الطبية والمدارس والمعاهد وفتح فروع لبعض جامعاتنا وتزويدها بأعضاء هيئة التدريس لسد النقص وتكثيف الدور المصرى فى حفظ السلام بزيادة المشاركة بقواتِ وعرض الوساطة لحل النزاعات.هذا هو ما يفتح الباب واسعا أمام الشركات المصرية للعمل بإفريقيا ويجعل كثيراً من الدول الأفريقية تلتف حول مصر فى المحافل الدولية فى قضية مثل سد النهضة وهو ما تفعله الصين وتركيا تقريباً.
نقلاً عن الاهرام القاهرية