بقلم - محمد صابرين
لم يعد هناك جدوى من التأجيل.. فأحوال الصحافة لا تخفى على الجميع، وواقع الاعلام لا يسر أحدا. وبقدر من الصراحة علينا أن نعترف جميعا بأن انتشار 22 ألف شائعة يعكس بوضوح «فاعلية الاعلام»، ومدى قدرة أدوات الدولة ـ وأبرزها الصحافة والاعلام ـ على أن تكون حاضرة أم غائبة، وقدرتها على أن توفر المعلومة والرؤية والتحليل فى الوقت المناسب، وهل هناك «ثمة فراغ» يسمح لآخرين أن يملؤه، وأن يشوهوا واقعا لن نقول إنه فى أحسن حالاته، ولكنه بالتأكيد ليس كارثيا أو يوشك على الانهيار مثلما تصر «الجهات المعادية» على أن تصور أحوال مصر، وأن تدق «نواقيس الفزع» فى محاولة بائسة لدفع مصر إلى المجهول والفوضي، وأجواء «اللا يقين».
ومن هنا، فإن مواجهة النفس بأسئلة مؤجلة كثيرة باتت أمرا ملحا، ولعل أهم الأسئلة: هل الاعلام أولوية، وإنقاذ الصحافة من المجهول على رأس اهتماماتنا، أم أن «تسيير الأمور كالمعتاد» هو الغالب على تفكيرنا؟، وإلى أى مدى سوف نذهب فى عملية الإصلاح والتغيير؟، وهل مازال المنطق الغالب هو أهل الثقة لا أهل الكفاءة، وغلبة منطق «سكن تسلم» ـ أى لا داعى لمشرط الجراح؟. وفى نهاية المطاف سؤال عريض: أى إعلام نريد؟، وهل نرى أن «الصحافة والاعلام» أحد أهم أسلحة «القوة الناعمة المصرية»، وجزء مهم فى حروب الجيلين الرابع والخامس، وأن ثمة رابطا قويا بين «الاعلام والأمن القومى»؟. وأحسب أن دولة بحجم مصر لا تملك ترف الوقت لتؤجل «عملية اصلاح» شاملة لإعلامها، ومعالجة أوضاع الصحافة بل «إنقاذها» بأسرع وقت. وليس هناك دليل على خطورة الأمر من تحذير رئيس الدولة من حرب الشائعات ضد مصر، كما أن وزير الدفاع الفريق أول محمد زكى شدد على ضرورة الانتباه إلى حروب المعلومات والشائعات التى تتعرض لها الدولة المصرية للتشكيك فى الإنجازات التى تحققت على أرض الواقع، وأحسب أن الحاجة تقتضى وجود «وحدة خاصة» لرسم «الرسالة الاعلامية»، والإشراف على التنسيق بين أجهزة الدولة، فضلا عن «الحوار المستمر» مع قيادات الاعلام وكتاب الرأى بشأن «صورة مصر»، والتهديدات الخطيرة فى مجال حروب المعلومات والشائعات. لقد بات الأمر ملحا، والحاجة إلى «محترفين» لا هواة! وفى ظل خطورة الأمر، فإن ذلك يستدعى أن نقيم ترسانتنا فى هذه المعركة، وهنا سوف نرصد بعض الملاحظات:
لعل الملحوظة الأولى هى ما أثاره الكاتب محمد أمين فى«المصرى اليوم» فى عموده «جعلونى مذيعة»، حيث يتساءل أمين بحدة «من الذى أفسد الإعلام؟ الإعلاميون أم الدولة؟ أم الاثنان معا؟.
هذا السؤال ينبغى الإجابة عنه بوضوح. وعند الإجابة سنعرف لماذا وصل الاعلام إلى هذا الحد من التهافت والنفاق؟، ويقول : «أكبر كارثة أن يصبح الاعلامى موظفا، وأن تختار الدولة موظفين لا اعلاميين. والكارثة أنها ـ أى الدولة ـ تشكو من الاعلام بعد ذلك، الدولة سبب التخبط.. تختار بشكل سيئ وتنتظر نتائج أفضل». وأحسب أن أمين يشير إلى قضية خطيرة تتعلق بأن «إعلام توافه الأمور»، والذى يرفع شعارات وطنية يبرر بها عجزه وعدم مهنيته، هو فى الواقع يمهد الأرض «الإعلام الشعبوى»، ويؤدى إلى إزاحة «القضايا الجادة»، ويوفر الأرضية المناسبة للتشكيك فى جدوى أهم أولويات الدولة والرئيس: «الاصلاح الشامل للتعليم والصحة، والمشروعات القومية الكبري، وقناة السويس» ، وبدلا من اقامة عاصمة إدارية جديدة، ونقلة كبرى فى المدن الجديدة، فإن إغراق المجتمع فى توافه الأمور سيوفر الأرضية لنشر الشائعات، ويسلمنا ذلك إلى الملحوظة الثانية التى تتعلق بنظرية «انسف حمامك القديم»، وأن الترسانة الصحفية والاعلامية علينا أن نطلق عليها رصاصة الرحمة. وهنا تبدو المسألة «ظاهرها الرحمة وباطنها العذاب»، وصحيح أن الصحافة الورقية أصبحت توزع 400 ألف نسخة بعدما كان الرقم مليون نسخة يوميا. وأحسب أن المسألة «فيها حاجات غلط كثيرة»، وبحساب بسيط لا يعقل أن 100 مليون مواطن مصرى لا يستهلكون سوى 400 ألف نسخة، والإجابة الوحيدة هى أن «السلعة» غير جيدة وغير جذابة، وأن المُصنع لا يعرف كيف يقدم «سلعة جيدة» تلبى احتياجات ورغبات المستهلك، وتقودنا حقيقة عدم رضا المستهلكين عن السلعة الاعلامية إلى نقطة مهمة تتعلق بما يعرف بحسابات «التكلفة والعائد»، وهنا فإن الخبير الاقتصادى المتميز عبد الفتاح الجبالى يحدد دقة الأزمة بالأرقام في ارتفاع حجم المديونية المستحقة على المؤسسات الصحفية للجهات المختلفة فى الدولة لتصل إلى 17٫6 مليار جنيه وتزايد الاعتماد على الخزانة العامة للدولة، التى قامت بدفع 1196٫6 مليون جنيه خلال العام المالى 2017/2018 ونحو 1204 ملايين خلال العام المالى 2016/2017، وهو مايعد أضعاف المبالغ التى كانت تدفع من قبل وتراوحت بين 392 مليونا (2013/ 2014) و232 مليونا فى العام الذى سبقه، وفى الوقت الذى بلغ فيه بدل التدريب والتكنولوجيا 237٫5 مليون جنيه عام 2017/2018، فإن الاعانات غير المتكررة وصلت إلى 880 مليونا مقابل 15 مليونا عام 2012/2013، ناهيك عن القروض الحسنة. والسؤال: هل تتحمل الدولة استمرار ذلك الوضع؟. والأمر الآخر يتعلق بما كشفه النائب أسامة هيكل فى حوار مع «الأهرام»، عن أن العجز المالى فى المؤسسات الصحفية له أسباب كثيرة، ودليله أن إحدى المؤسسات الصحفية تواجه اتهاما بوجود فساد يقدر بـ 200 مليون جنيه» وأحسب أن الوقت قد حان لـ «تنظيف البيت الصحفى من الفساد»، حيث لم يعد من المعقول أن يتحمل الشرفاء عبء الفاسدين، وأن تتحمل الدولة نزيفا كهذا، باختصار لابد من مشرط «الرقابة الإدارية». ويبقى أن الأزمة ليست «مسألة حسابية فقط» بل نحن نتحدث عن 30 ألف شخص يعملون فى المؤسسات الصحفية، وأكثر من 12 ألف صحفى عضو فى نقابة الصحفيين، وربما مثلهم أو أكثر غير معينين، وآلاف آخرين يعملون فى الفضائيات. ترى هل غاب عنا «مستقبل هؤلاء الناس»، وهل يفكر أحد فى عملية التوسع فى كليات الاعلام فى الجامعات الحكومية، والأكاديميات الخاصة التى تدفع الآلاف سنويا إلى سوق مهنة تعاني، ولا تتحمل المزيد من عدم المسئولية والخفة فى التعامل مع أزمة مهنة.
ويطرح عماد الدين حسين سؤالا خطيرا: أليس هناك احتمال أن يتم استقطاب بعض هؤلاء من قبل جهات ليست بريئة، وأليس واردا أن يضعف بعض هؤلاء أمام لقمة العيش، وأتفق تماما مع الكاتب أسامة هيكل أنه صحيح أن إنشاء الصحف بالإخطار، ولكن لابد من شروط تضمن حقوق الصحفيين والعاملين. ولم يعد خافيا أن الأزمة باتت خانقة من تدنى الأجور، وغياب التدريب المهني، وهجرة الكفاءات، وتدنى الطموحات، وفقدان الأمل لدى المتميزين، وأخيرا غياب الرؤية بأن هذه «مهنة إبداع» وأنها أهم أسلحة القوة الناعمة المصرية. وأن مصر بحاجة لعقول مبدعة لا «أيدٍ مصفقة»، والزمن يقول لنا إن مبارك والإخوان خسرا معركة العقول، وأن بوتين والغرب أدركا أن أرض المعركة هى ساحة الأفكار، فترى هل يدرك العقلاء عمق الأزمة؟!.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع