بقلم - محمد صابرين
لم يكن فوزه بالرئاسة الأمريكية «حدثا طبيعيا»، بل «أمرا استثنائيا»، والرئيس الحالى دونالد ترامب برهن من اليوم الأول، بل منذ حملته الانتخابية، على أنه يتحلى بالكثير من الرعونة والطيش والتهور. والأهم أنه أحاطت به الشكوك والاتهامات الكثيرة من كل جانب، وأخطرها اتهامات «الدولة العميقة» له بأن روسيا ساعدته فى الوصول للحكم، وأن ثمة شيئا مريبا يجمع بينه وبين الرئيس الروسى فلاديمير بوتين. والآن فإن ترامب نفسه يتحدث عن إزاحته عن السلطة بعدما كان يقيم التجمعات الجماهيرية للإعداد لفترة ثانية فى الحكم، وفى محاولة لاستعطاف الناخبين وحشد أنصاره؛ قال ترامب لقناة فوكس نيوز «إن الاقتصاد الأمريكى سوف ينهار فى حال عزله، وسيصبح الجميع فقراء جدا». ولعل هذا أبرز الشواهد على أن الخناق يشتد بقوة حول ترامب، وأغلب الظن أن الرجل لم تعد أمامه فسحة من الوقت حتى نوفمبر المقبل (موعد التجديد النصفى للكونجرس). وهنا فإن الأخبار ليست جيدة، فاستطلاعات الرأى تميل إلى مصلحة الديمقراطيين، كما أن ترامب لم يعد وضعه جيدا بعدما تلقى أخطر ضربتين: أولاهما خيانة محاميه مايكل كوهين واعترافه بارتكاب انتهاكات تتعلق بتمويل الحملة الانتخابية الرئاسية، ودفع 150 ألف دولار لإسكات امرأتين أقامتا علاقات جنسية مع ترامب. والثانية: إدانة المحكمة بول مانفورت رئيس الحملة الانتخابية لترامب بالاحتيال الضريبى والمصرفى والتورط فى 12 قضية على الأقل. وهذه الرءوس المتساقطة تنضم إلى آخرين ـ مثل مايكل فلين مستشار الأمن القومى السابق لترامب ـ الذين عقدوا اتفاقيات للتعاون مع المحقق الخاص روبرت مولر بشأن الفضائح المالية والقانونية للرئيس، وانتهاكاته وبعض مساعديه قوانين الحملة الانتخابية، وثمة أنباء تتردد عن فضائح غسل أموال تربط ما بين الرئيس وعائلته، خاصة صهره جاريد كوشنر. ومن هنا فإن ترامب من المرجح أن يتحول إلى «بطة عرجاء»، وعلى الأرجح فإن مسألة رحيله عن المشهد السياسى باتت «مسألة وقت» ما لم تحدث معجزة.
وإذا لم تحدث أمور خارقة، فعلى الأغلب أن تحدث «أمور يائسة»، وهو ما يعرف بـ«الاندفاع إلى الأمام». وللأسف لا توجد ساحة مهيأة لمثل هذا الاندفاع سوى الشرق الأوسط، ولا يملك ترامب سوى ورقتى «إيران» و«صفقة القرن». ولا شك فى أن ترامب سيحاول أن يرمى بـ«صفقة القرن» بأسرع ما يمكن على أمل أن يسدى خدمة لإسرائيل واللوبى الصهيونى وأنصاره من اليمين الدينى والأمريكيين البيض المتعصبين، وفى الوقت نفسه سوف يحاول بقوة مع روسيا والصين وأوروبا لإرغامهم على التخلى عن إيران، وأن تنسحب القوات الإيرانية من سوريا مقابل انسحاب واشنطن من سوريا، إلا أنه فى الوقت نفسه سوف يفرض عقوبات لم يسبق لها مثيل ضد طهران، ولا يمكن استبعاد وقوع «مواجهة محدودة» أو«ضربة عسكرية» أمريكية «محسوبة بدقة» للقوات الإيرانية، وذلك كنوع من إثبات «القدرة على التحدي»، وأن ترامب هو الرئيس القوى الذى سوف يعيد أمريكا «أمة عظيمة» مرة أخري، وأن على الجميع أن يأخذ فى حسبانه أن هناك «رجلا يائسا» فى ا لبيت الأبيض يحارب «معركته الأخيرة» من أجل البقاء. وهنا فإن تجاوب المجتمع الدولى سيأخذ صورتين: أولاهما محاولة إلهاء هذا الرجل المحاصر بالأزمات وتقديم «تنازلات شكلية» لكسب الوقت حتى رحيله، والثانية هى عدم التعويل على رجل فقد ويفقد الكثير من المصداقية والسلطة والقدرة على تمرير أجندته مقابل الدولة العميقة، والتعاون مع هذه المؤسسة ـ سواء الكونجرس أو البنتاجون أو المخابرات ـ، أو بداية التفاهم مع «الرئيس المؤمن» مايك بنس الذى يستعد من الآن لخلافة ترامب، وربما كان الرجل المعروف بأنه يمثل اليمين المتطرف يعد نفسه ليوم إزاحة الرئيس منذ قبوله منصب نائب الرئيس. وهذا الرجل هو المعروف بأنه أحد أهم المحركين لقرار نقل السفارة الأمريكية إلى القدس، والاعتراف بها عاصمة موحدة لإسرائيل، كما أنه يقف بقوة وراء ا لمواجهة مع تركيا بشأن الإفراج عن القس أندرو برانسون، الذى تتهمه أنقرة بالتجسس والتعاون مع جماعات إرهابية كردية، وجماعة عبدالله جولن المتهم بتدبير محاولة الانقلاب العسكرى الفاشلة ضد إردوغان.
ـ . ـ وأحسب أن الشرق الأوسط عليه أن يستعد من الآن لسيناريوهات معظمها فى غاية الخطورة، ولعل أهمها ترى ما هو حجم «التجاوب الآمن» مع رئيس يائس باتت أيامه معدودة، وماذا ستفعل الدول العربية مع «رئيس مؤمن جديد» فى البيت الأبيض تحركه دعاوى دينية متطرفة، ويرى فى دعم «الدولة اليهودية» الخالصة فى إسرائيل تحقيقا لمقتضيات العقيدة التى يؤمن بها، بل إن إقامة إسرائيل الكبرى من «النيل إلى الفرات» ما هو إلا تحقيق للوعود السماوية لبنى إسرائيل. ومرة أخري؛ فإن العالم العربى عليه أن يواجه «معضلة كبري» تتعلق «بالتطرف الديني» المسيحى واليهودي، وأن يجد طريقه للتفاهم مع رئيس آخر لم يقل بعد «إن السماء تتحدث إليه»، مثل جورج بوش الابن، ونحن الآن ندرك حجم الخراب والدمار الذى تسبب فيه بوش ونائبه ديك تشيني، وحروبهما المفزعة من حرب أفغانستان وغزو العراق، وسياسة الفوضى الخلاقة. وأغلب الظن أنه لم يتبق سوى «المواجهة الكبري» ما بين السعودية وإيران، وذلك لإغراق الخليج كله فى فوضى عارمة.
ـ . ـ وأحسب أن الشرق الأوسط يواجه تحديات كبيرة وأسئلة صعبة مثل التى طرحنا بعضها، ومن الأسئلة الأخرى هى ماذا سيفعل العرب مع الديمقراطيين، فثمة احتمال أن يسيطروا على الكونجرس بمجلسيه، وأن تعود «الأجندة الديمقراطية» ثانية لتتصدر المشهد، خاصة رؤى باراك أوباما وهيلارى كلينتون التى لا تحظى بإعجاب كبير فى المنطقة العربية. ولكن هذا سؤال كبير مطروح ويجب الاستعداد بأجوبة عليه من الآن.
ـ . ـ ويبقى أن الشرق الأوسط فى مرحلة تحول، وهذا التحول عادة ما يتسم بالعنف، كما أن المنطقة تشهد حروبا متعددة الأطراف، وصراعا محتدما من أجل «إعادة رسم خرائط المنطقة»، بل «سايكس ـ بيكو» جديدة، وفرض دول جديدة بقوة السلاح ـ مثل الدولة الكردية. وبالطبع هذا كله أوجد ويوجد مخاطر جسيمة مثل التطرف والعنف السياسي، وتطلعات كبرى للمواطنين، وحالات عدم رضا نراها فى أماكن عدة من المنطقة، ومخاطر من انزلاق الدول إلى الفوضي، وأحسب أن تجربتنا القصيرة فى الزمن والعميقة فى الألم، والباهظة فى الثمن ـ سواء أرواح أودمار أو أجيال ضائعة ـ تحتم علينا أن نكون فى غاية اليقظة والحذر وألا نتورط فى مغامرات «رئيس يائس» ومحاصر فى البيت البيض، وهذه المرة على ترامب أن يذهب وحده، وأن يدفع هو لا نحن ثمن ما يفعل وما لم يفعله، وثمن المواجهة مع «الدولة الأمريكية العميقة»، وأن نتعلم أن نأخذ قبل أن نعطى مثلما تفعل إسرائيل دائما.
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع