بقلم - محمد صابرين
لا يستطيع المراقب المحايد لأحوال العالم العربى أن يقول بارتياح إن الغضب قد توارى أو تبدد من المحيط إلى الخليج، فبعد 7 سنوات مرت على ما اصطلح على تسميته «الربيع العربي» فإن هذا الغضب الظاهر بقوة لم يتمكن من تحقيق وعوده «بربيع»، بل إن السيد أحمد أبوالغيط أمين عام جامعة الدول العربية يقول فى مؤتمر ميونخ للأمن أنه كان «كارثة» وأحسب أن ما جرى خلال السنوات السبع قد نشر قدرا من الفوضي، والحروب الأهلية، ومزيدا من التراجع الاقتصادي. وتزامن ذلك مع كشف المزيد من المعلومات عن «الأيدى التى لم تعد خفية» وساهمت فى استغلال الغضب والقفز إلى السلطة، وذلك من أجل نشر «الفوضى الخلاقة»، وهو ما بشرت به وزيرة الخارجية الأمريكية كوند وليزا رايس.
إلا أن المرء عليه أن يقرر أن «الغضب» فى أغلبه كان «صناعة محلية»، وأن المعالجات الأمنية التى تخيلت أن «قدرا ما من القوة» سوف يعالج الغضب ويردع الغاضبين لم يكتب لها النجاح.. وأغلب الظن أن النخب الحاكمة الجديدة والقديمة على حد سواء باتت تدرك الآن أن «القوة وحدها لا تكفي» لمعالجة ظاهرة الغضب، وفى المقابل فإن الجماهير العربية. وخاصة الشباب. يتعين عليها أن تدرك أن «الغضب وحده لا يصنع» ربيعا ديمقراطيا، ولن يحقق «العيش والحرية والعدالة الاجتماعية»، فالأمر أكبر من مجرد «نوبة أو نوبات عضب وأن الدرس الأهم أن ظاهرة «الإسلام السياسي» والجماعة المحظورة عندما جاءت لحظة الحقيقة لم تكن على قدر المسئولية، ولقد تبين الجميع أن هؤلاء الذين ركبوا «موجة الغضب» لم يستعدوا لتقديم «بديل ناجح» لمعالجة القضايا المثيرة للغضب، والأدهى أنهم كانوا يحملون «أمراض السلطة» ذاتها التى اتهموا بها خصومهم، وبينما اكتفى الراحلون «بتخوين الخصوم» فإن هؤلاء الإسلاميين واجهوا خصومهم، «بالتخوين والتكفير»، وتهميش كل من هم ليسوا من «الأهل والعشيرة»، بل وزادوا بصراعهم هم أنفسهم داخل «معسكر الإسلاميين» وبعد سنوات طويلة من حالة حراك طويل، وبحث أطول فإن الذاكرة العربية لا يزال حاضرا فيها ذلك السجال ما بين محمد حسنين هيكل بكتابه «خريف الغضب»، والمفكر الكبير د. فؤاد زكريا بكتابه «كم عمر الغضب»، والذى حاول فيه زكريا أن يقول أن العيوب التى ذكرها هيكل بعصر السادات هى ذاتها التى كانت موجودة فى عهد عبدالناصر وشارك فيها هيكل بالمشورة أو بالصمت.
ويبدو أن الواقع العربى مازال أسيرا لجدل هيكل وزكريا، والمحاولات الكثيرة لتشخيص سبل الخروج من معضلة التأخر الحضاري، وهنا لاتزال روشتة زكريا تستحق التأمل فهو يقول «مصر مضطرة للاختيار بين فكر بلا فعل، أو فعل بلا فكر، وأحسب أنه لن يكون لنا خلاص إلا عندما يصل الذين يفكرون إلى المستوى الذى يتيح لهم أن ينقلوا فكرهم إلى حيز الفعل المؤثر والفعال، أو يصل الذين يفعلون إلى المستوى الذى يدركون فيه قيمة الفكر المتفتح والعقل المستنير، وهنا نرصد أن د. فؤاد زكريا يدعو إلى العلم فى مواجهة الخرافة، وأهل الخبرة فى مواجهة أهل الثقة، وإلى التفكير والحوار والاستعانة بأهل الفكر والابداع لمواجهة أوجاع العقل العربى وترشيد أفكار وسلوك العامة.
والمدهش أن ما يمر بالعالم العربى ليس «ظاهرة شرق أوسطية» بل إن الغضب نشهده فى مناطق أخري، ولقد أفرز الغضب ظواهر عدة مثل صعود الشعبوية واليمين المتطرف، ويقول لنا أ. محمد عبدالله يونس المدرس المساعد بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية ـ جامعة القاهرة أن الإجابة عن سؤال «لماذا صعدت أنماط جديدة لـ سياسة بلا مرجعية»؟ هو «أزمة العلم» ويأخذنا د. يونس فى مقالته التى نشرها مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة مؤخرا إلى بعد جديد، فهو يقول «لا تعد أزمة المعرفة العلمية شأنا أكاديميا، فالتفاعلات السياسية باتت تواجه واقعا شديد الاضطراب بسبب الحرب على الحقيقة، وانتشار ممارسات التضليل المعلوماتي، وصعود التيارات الشعبوية واليمينية المتطرفة ، وتفكك المؤسسات وتعثر المفاوضات نتيجة للتطرف الفكري، ورفض الحلول الوسط، وتزايد العداء للسياسة والنخب والأحزاب، ويقدم د. يونس شكوى كثير من العلماء والخبراء مما أسماه «عدم قدرة الرؤى المنطقية» على استيعاب الأزمة الحالية للمعرفة العلمية، إذ تصاعد العداء للعلم والعقلانية، وانتشرت أنماط متعددة من المعلومات السطحية المضللة نتيجة تداولها الكثيف عبر الانترنت ومن المدهش أن المقالة تتحدث عن المجتمعات الغربية، والأمريكية تحديدا إلا أن ما نعلمه الآن أن العولمة تكفلت بنشر جميع الأمراض، كما أنها استطاعت أن تبين لنا حقيقة أن «أمراض المجتمعات» فى النهاية متشابهة، وأننا فى النهاية.. فى الهم بشر؟!
وهنا تقول الكاتبة الأمريكية «سوزان جاكوبي» فى كتابها «عصر انعدم المنطق الأمريكي» الصادر 2007، حيث ركزت جاكوبى على القوى المحركة لحالة «العداء للثقافة» فى المجتمع الأمريكى على مدار أربعة عقود، وتشمل تصاعد الأصولية الدينية، وتصدع النظام التعليمي، وانتصار مصادر المعرفة المرئية على نظيرتها المطبوعة، وهو ما أدى لانتشار الفكر السطحى السريع الذى لا يفصل بين الحقيقة والرأي»، وهنا نلحظ أن هذا التشخيص ينطبق على كثير من المجتمعات العربية، كما أن أجيالا عدة باتت تتفق على أن «مدرسة المشاغبين» كانت أشد اللحظات سخرية من العلم والتعليم فى مصر، وأنها كانت ترصد حالة تشوش هائلة وصلت ذروتها بذلك الحوار الساخر بين سعيد صالح وبقية الأبطال فى المسرحية» تعرف إيه عن المنطق. واليوم وبعد 7 سنوات فإن الحركات الراديكالية، والجماعات الدينية المتطرفة لم تقدم سوى خطاب شعبوى مبسط وجرعات متزايدة من الغضب «على الأوضاع الراهنة» واستيقظ الكثيرون على أن شعارات مثل «الإسلام هو الحل» لم تقدم «حلولا حاسمة» لمشاكلها اليومية، وأن التبسيط الشديد للقضايا، ومداهنة هذه القيادات الإسلامية للمؤيدين من خلال طرح وعود بتحقيق أقصى تطلعاتهم لم تكن سوى «فنكوش» وهنا يمكن للمرء استعادة اعتراف خيرت الشاطر أحد قيادات الجماعة بأنه ليس هناك «برنامج للنهضة» ولكن ذلك بعد الوصول للحكم! ولا تحية مرسى لسائقى التوك توك، ولا حديثه المثير للسخرية عن «سلامة الخاطفين والمخطوفين فى سيناء».. ولم يدرك أنه يساوى بين الإرهابيين والضحايا؟! ويبقى أن أبو الغيط يعترف فى حديثه أمام مؤتمر ميونخ بوجود الكثير من الغضب، وأن حل المشكلة الفلسطينية سوف يساعد فى تقليل حجم الغضب.. كما أن ولى العهد السعودى محمد بن سلمان يقول فى حوار مع صحيفة «تيلجراف» البريطانية أنه يؤمن بأن «النمو الاقتصادى فى السعودية سوف يفيد بقية المنطقة، وبالتالى سوف يساعد فى هزيمة التطرف، ويؤكد بن سلمان، نريد أن نحارب الإرهاب، ونريد محاربة التطرف، لأننا بحاجة إلى بناء الاستقرار فى الشرق الأوسط. نريد نموا اقتصاديا سيساعد المنطقة على التطور. وبسبب موقعنا المهيمن فإن السعودية هى مفتاح النجاح الاقتصادى فى المنطقة«. وأحسب أن الاقتصاد هو «حجر الزاوية» فى الإجابة عن الكثير من الغضب، إلا أن التجربة علمتنا أن اقلية محظوظة وأغلبية محرومة لا توفر أمنا ولا استقرارا بل تفجر براكين الغضب، كما أن الحوار العميق والدائم مع الأجيال الجديدة والمواطنين هو خير وسيلة، وأن رضا الناس يحقق الأمن الحقيقي، وأن التعليم والمنطق هو من يقود إلى النهضة ويحقق الربيع لا اللجوء إلى القوة لنشر أجواء زائفة من الاستقرار.
نقلا عن الاهرام القاهرية