بقلم - محمد صابرين
ما لا يدركه الكثيرون أن الشرق الأوسط رغم حالة الفوران وخيبات الأمل من استمرار الأوضاع علي حالها فإن أحلام «التغيير» عليها أن تنتظر؟!، وهنا فإن مسألة اصلاح أحوال التعليم، وتجديد الخطاب الديني، وتحسين الأوضاع الاقتصادية، وناهيك عن الوصول إلي توافق في الآراء حول «دولة ديمقراطية مدنية حديثة».. هذه كلها «أحلام مؤجلة» وذلك نظرا لأن «خبرة سنوات الربيع العربي» لم تكن جيدة. وتزداد الصورة تعقيدا مع استمرار مشاكل المنطقة المزمنة مثل «القضية الفلسطينية»، و«جهود العملية السياسية»، واهتزاز «الآليات والمؤسسات القديمة» لعملية نقل السلطة، وعدم قدرة الدولة العربية الحديثة علي الوفاء بنصيبها من «العقد الاجتماعي» القديم الذي كانت خلاصته «توفير الاحتياجات الأساسية مقابل تقييد المشاركة في صنع القرار، وكأن ذلك كله لم يكن كافيا فقد أضيف إلي الصورة «استمرار ظاهرة الإرهاب» بل وتفاقمها، وزيادة «التدخلات الاقليمية» في الشأن العربي إيران وتركيا ـ ، وبروز قضايا خلافية جديدة مع دول الجوار (مشكلة تقاسم المياه مع إثيوبيا)، وتفجر صراعات جديدة علي الموارد (البترول والغاز في المياه العميقة في شرق المتوسط)، وأخيرا وليس آخرا عجز جامعة الدول العربية عن توفير «حلول عربية» للقضايا المتفجرة، واسهام الجامعة في عملية «تدويل القضايا العربية» ـ وأبرزها مسألة العدوان علي ليبيا، وفشل الجامعة في توفير أو دفع عملية التعاون أو الاندماج العربي في القضايا البعيدة عن «الخلافات السياسية» العميقة، بل وصل الأمر إلي حد الدعوة الصريحة لاقامة «نظام أمن اقليمي» و «منتدي للحوار» بعيدا عن الجامعة العربية. وأحسب أن هذا كله «ميراث هائل» من الأزمات، ومن عجز مؤسسات النظام العربي القديم علي مواجهته، وفي المقابل فإن الذين انتظروا أو شجعوا أو استقدموا «التدخلات الأجنبية» لم ولن تكون أحلامهم أو أوهامهم بتحسين الأوضاع أحسن حالا، بل الأغلب أن الأوضاع ساءت نتيجة لانتشار الفوضي، و«صراع الأجندات الخارجية»، وأخيرا استمرار الأوضاع علي ما هي عليه نظرا لأن الأطراف كافة تريد «عملية تغيير» تحافظ أو تعظم مكاسبها، فإذا لم يكن ذلك متاحا فإن «جميع المستفيدين» من الأوضاع القديمة يسارعون بإعادة «عقارب الساعة» إلي حالتها المعتادة. ومن هنا فإن محاولات تغيير قواعد اللعبة، أو تحريك بعض الملفات محكوم عليها بأن تحدث صخبا ينتهي به الحال إلي استمرار الأوضاع. ومن الغريب أن معظم القضايا والملفات يشد بعضها بعضا في اتجاه العودة إلي «الأوضاع القديمة» مثلما سنري الآن مع أبرز مسألتين: تحريك صفقة القرن، والملف النووي الإيراني، وصراعات المنطقة.
والبداية من قضية العرب الأولي، وهي القضية الفلسطينية. وثمة نشوة أمريكية كبيرة لدي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب وطاقمه بشأن خطوة نقل السفارة الأمريكية إلي القدس. ويسود لدي المتحمسين لـ«صفقة القرن» بأن التوقيت مناسب، إلا أن آرون ميلر الدبلوماسي الأمريكي الشهير ـ والذي ساهم في جهود عملية السلام ـ يري أن لا حظوظ نجاح لمقامرة ترامب. ويقول ميلر إن الأمر يحتاج لثلاث مسائل لم تتوفر يوما في مفاوضات السلام، وهي أولا: قادة هم أسياد اللعبة السياسية في بلادهم، وليسوا أسراها، ولا أسري أيديولوجياتها، أي أصحاب رؤي يملكون حس البراجماتية. وثانيا: شعور بالإلحاح ـ تألم وأربح ـ يجعل من تغيير الوضع القائم أكثر جاذبية من مخاطر ابقائه علي حاله. وثالثا: وجود طرف ثالث، هو علي الأغلب الولايات المتحدة يملك الإرادة ومهارة لعب دور الوسيط، إذا شاء الطرفان ورغبا جديا في ذلك. وفيما يبدو أن هذه العوامل غير موجودة، وما هو مقترح «وجبة مسمومة» ينبغي علي العقلاء الابتعاد عنها، وتركها تلاقي مصير «صفقات سابقة» من الفشل والنسيان.
ومن الغريب أن يتصادف عملية الاحتفال بنقل السفارة الأمريكية إلي القدس، مع القرار المنتظر من ترامب بالإبقاء أو الغاء الاتفاق النووي مع إيران. وثمة حديث وصخب هائل بشأن «حرب مفتوحة» مع إيران، وذهب البعض إلي حد القول بأن إسرائيل ربما تنجح في دفع أمريكا لخوض حرب مع إيران، وتوجيه «ضربات ساحقة» للمنشآت النووية الإيرانية، وذلك بالرغم مما يصطحب ذلك من تفجر الشرق الأوسط بقوة. إلا أن المؤشرات كلها تشير إلي أن قواعد اللعبة لن تتغير، وأن «الخيار الأمثل» هو «الحروب بالوكالة»، والتي يتم اختيار مسرح عملياتها بعناية، ويتزامن معها ما يعرف «العمليات الجراحية الدقيقة» من أمثال تدمير مخازن أسلحة نوعية وعمليات اغتيال «محددة الأهداف»، وأن يجري ذلك كله وسط صخب اعلامي من جانب جميع الأطراف لإبراز القوة وتهديد الخصوم والقدرة علي الرد ولكن كل هذه «الحماسة اللفظية» هي للاستهلاك المحلي فقط!
>>>
وربما من المفيد أن نبعد أحاديث الدعاية والدعاية المضادة من كلا المعسكرين، فقد خرج حسن نصر زعيم حزب الله اللبناني ليقول في معرض الانتخابات اللبنانية إن «الحرب مع الوكلاء في سوريا انتهت وستبدأ مع الاصلاء». وهو هنا يقصد بالوكلاء الجماعات المسلحة التي كانت تحارب لإسقاط النظام السوري، أما الأصلاء فهم الأمريكان والإسرائيليون وبعض دول الخليج. إلا أنه حتي مع صحة سحب معظم قوات حزب الله من سوريا استعدادا للحرب مع إسرائيل، فإن المرجح أن الساحة السورية سوف تحافظ علي صدارة المشهد في الحرب بالوكالة. وما يعزز ذلك أن إيران لديها الآلاف من المستشارين العسكريين في سوريا، وميليشيات باكستانية وعراقية وأفغانية شيعية، وهؤلاء جميعا يلعبون دورا في ساحات القتال ويستعدون حاليا للتورط في بدء عمليات قتالية ضد القوات الأمريكية في الشمال السوري وربما شرق الفرات. وهنا فإن أغلب الظن أن «الوجبات السريعة» من المواجهات هي المفضلة حتي الآن، وذلك لأنها لازالت تحت السيطرة، وفيما يبدو أن أطراف اللعبة مرتاحة لها حتي الآن؟!وفي المقابل فإن ترامب يملأ الدنيا ضجيجا برغبته في الرحيل من سوريا، إلا أن الثابت هو أن واشنطن تخوض «حروبا لا متناهية» ـ في أفغانستان والعراق وربما سوريا ـ حيث المعيار الأساسي للانتصار ليس مدي قدرة الأمريكيين علي كسب الحرب، بل كيفية تجنب الخسارة. وهنا فإن المرء يمكنه أن يضيف «مدي القدرة علي إحداث الفوضي»، والأهم ادارة الفوضي هذه لصالح واشنطن وإسرائيل حتي لو كانت علي حساب أوروبا سواء من حيث تكلفة الارهاب والهجرة وصعود اليمين المتطرف. المسألة لا تهم لأن المبدأ هو «أمريكا أولا».. وأي شئ آخر لا يهم!
ويبقي في النهاية أن الشرق الأوسط غارق في أوجاعه وانقساماته، وعاجز عن التجاوب مع الرؤية المصرية بضرورة «التكاتف العربي»، والاهتمام بمشاكل الداخل، وتطلعات المواطنين ورغبتهم في «مستقبل وحياة أفضل». إلا أن الشواهد في معظمها توحي بأن الرهان علي التغيير بـ«قفزة واحدة»، وبالرهان علي «العلاج بالصدمات»، وبالتورط في صفقات مسمومة، ومعلومة العواقب لن تكون سوي «قفزة في المجهول»، وأن التغيير لابد أن يبدأ من الداخل وبتوافق عربي، وبرؤية تأخذ «الطبيعة المحافظة» للمجتمعات العربية، وبحجم التحديات، والأهم بـ«الفرص الهائلة» في الالتفاف حول مصر والعمل معها، ومساعدتها لتنهض بقوة لكي تسهم في نهضة العالم العربي. ذلك فقط هو الطريق!
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع