بقلم - محمد صابرين
دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة يريد الانسحاب من سوريا، إلا أن جنرالاته لا يرغبون في «انسحاب متعجل»، وبعد ضربة ثلاثية من قبل واشنطن ولندن وباريس، فإن الرئيس الفرنسي مانويل ماكرون يقول إنه «أقنعه بالبقاء». ويقول الخبراء إن «أوروبا» ترغب في مقعد علي طاولة «تقرير مستقبل سوريا»، وفي المقابل فإن تركيا أردوغان تقول إنها لن تتخلي عن الشراكة مع روسيا والتنسيق مع إيران. ووسط هذا كله تقول صحيفة «وول ستريت جورنال» إن جون بولتون مستشار الأمن القومي طلب من قطر والسعودية والإمارات ومصر إرسال قوات إلي سوريا محل القوات الأمريكية، وضخ مليارات الدولارات. وهنا السؤال البديهي: لماذا تنسحب الولايات المتحدة؟، وإذا كانت تحقق تقدما من وجهة نظرها فلم الاستعجال؟، وإذا كان «الخيار العسكري» لم يحقق المرجو لها فلم تعتقد أن هذا المسار العسكري سوف ينجح مع دول عربية!. وسؤال آخر: هل نحن في نهاية «فصول الحرب» وبداية «عملية التسوية السياسية»؟، أم أن الأمر يتعلق بـ«فصل حرب جديد» أو «الحرب المنتظرة» ما بين الدول العربية من ناحية وإيران من ناحية أخري.. ومسرح العمليات علي الأرض السورية، التي يتصادف أنها الآن توجد بها قوات روسية وتركية وإيرانية وميليشيات وجماعات وتنظيمات إرهابية، وتتورط في حربها الدائرة إسرائيل وقوات دول عدة. والإجابة القاطعة فيما يتعلق بمصر هي «لا واضحة وقاطعة». وأحسب أن القاهرة لديها عشرة أسباب واضحة تمنعها من التورط في «المستنقع السوري»، وهي: أولا: القوات المصرية تحارب بالفعل فرع داعش في سيناء، وتؤمن الحدود الصحراوية الشاسعة بين مصر وليبيا، ولا يخفي علي أحد أن ليبيا تعاني سيطرة خليط من الميليشيات المسلحة والتنظيمات الإرهابية. ثانيا: مصر لم تشارك بقوات خارج أراضيها منذ حرب تحرير الكويت، ولقد كانت المهمة واضحة، وتحظي بإجماع شعبي ودولي وبتفويض من الأمم المتحدة. ثالثا: القاهرة تؤمن والوقائع علي الأرض تشهد بأن التصعيد العسكري لم يأت بنتائج، بل أتي بتعقيدات كثيرة، أبرزها: انتشار الإرهاب، وانهيار الدولة السورية، وبالطبع ناهيك عن الخراب والدمار وتشريد ملايين السوريين. رابعا: القاهرة لا تدعم الميليشيات الإرهابية، وبالتالي من غير المنطقي أن تحارب هذه التنظيمات الإرهابية علي أراضيها ثم تقدم أي نوع من الدعم لها. وبالتالي حتي الحديث عن تدريب قوات ـ هي في الواقع ميليشيات تسرب لها الإرهابيون ـ لن يكون مقبولا من القاهرة. خامسا: تدرك مصر أن أي خيار بعيد عن «التسوية السياسية» سوف يقود حتما إلي تقسيم سوريا، وهذا بدوره سيفتح «أبواب صندوق باندورا»، ويطلق كل أنواع الشرور بالمنطقة. سادسا: مصر لها أولوية وحيدة وهي إبقاء سوريا موحدة. سابعا: القاهرة تدعم الشعب السوري دون تفرقة. ثامنا: القاهرة تري أن المؤسسة العسكرية السورية مهمة للحفاظ علي الدولة الوطنية. تاسعا: مصر لن تعترف إلا بالحكومة الشرعية التي تحظي باعتراف المجتمع الدولي وتأييد شعبها. عاشرا: أن رؤية مصر مستقبل سوريا الموحدة هي أن يسودها «حق المواطنة» للجميع.
ـ . ـ والآن علينا أن نتوقف أمام عدة مشاهد ترسم أو تفسر ولو قليلا جزءا من «سياسة الارتباك» الأمريكية، والسر وراء تحرك أردوغان بمفرده سعيا وراء مصالح تركيا دون التقيد كثيرا بـ«قيود التحالف الغربي».. وهنا نرصد التالي:
.. البداية هي قناعة ترامب بحسابات التكلفة والعائد أن واشنطن أنفقت تريليونات الدولارات علي حروب الشرق الأوسط، ولم تحقق أي نتائج توازي هذه التكلفة. وذكرت وسائل الإعلام الأمريكية أن ترامب يقول إن واشنطن أنفقت 70 مليار دولار في سوريا دون فائدة. والآن ما هو واضح أن ترامب يريد أن يحمل الحلفاء تكلفة الحرب في سوريا بشريا وماليا، وهو العودة إلي «القيادة من الخلف» مثلما بشر أوباما من قبل، إلا أن الجديد هو «تسوية الحسابات المالية القديمة»؟!.
... وفي الوقت نفسه فإن خطوة الانسحاب الأمريكي تزامنت مع رسالة روسية لوزارة الدفاع الأمريكية منذ يومين، وتعتذر فيها روسيا عن عدم توفير أي غطاء للقوات الأمريكية في سوريا من أي «رد إيراني»، وذلك نظرا لأن الوجود الإيراني غير نظامي، ولا تنسيق معنا، ولا توجد غرفة عمليات مشتركة ما بين طهران وموسكو. ـ . ـ ومن ناحية أخري حملت التقارير الاستخباراتية الأمريكية لترامب تحذيرات من أن فصيلين عسكريين مدعومين من إيران يستعدان لشن «حرب عصابات مكثفة» ضد القوات الأمريكية في سوريا، وأشارت التقارير إلي أن أحدهما هو لواء الباقر المدعوم من سليمان قاسمي، والآخر هو حركة النجباء التي كانت جزءا من الحشد الشعبي العراقية.
ـ . ـ هذه هي بعض ملامح الصورة، وتقول وكالة الأنباء الألمانية إن واشنطن تدرس تقديم «مكافأة إجبارية» للسعودية لو أرسلت قوات وقدمت أموالا، وأحد الأفكار هو منحها وضعية «حليف رئيسي» خارج حلف الأطلنطي مثل إسرائيل والأردن وكوريا الجنوبية، ويقول نيكولاس هيواس خبير شئون الشرق الأوسط بمركز »الأمن الأمريكي الجديد« إن هذه الخطوة بمثابة »ريشة علي رأس عدة دول«، وسوف يعزز دور الولايات المتحدة كضامن لأمن السعودية، وأنه سوف يضع علي الورق ما كان »اتفاق نبلاء«. والإجابة عن ذلك هو تصرف تركيا العضو بالأطلنطي وعدم ثقتها بالحليف الأمريكي لا وعوده، ولا الورق الذي يجمع أنقرة بالناتو. لقد قيل لها إن أزمتها مع الأكراد لا دخل لنا بها؟!. إننا أمام تصورين: الأول هو «فصل جديد» من الحرب السورية بين الدول العربية وإيران، وإشعال «الحرب الطائفية» ما بين السنة والشيعة بصورة مباشرة، وتجاوز مرحلة الحرب بالوكالة التي شهدناها. أما الخيار الثاني فهو أننا أمام مناورات اللحظة الأخيرة قبل بدء «ماراثون التسوية السياسية» وتحديد مستقبل «سوريا الجديدة». وهنا الكثيرون يتحدثون عن صفقة أمريكية ـ روسية، كما لا يخفي علي أحد الغزل الألماني تجاه روسيا وإيران. وفي الوقت ذاته سوف نشهد صراعا حاميا علي كعكة إعادة إعمار سوريا، وأيضا «الثروات الهائلة» من الغاز التي ستجعل من سوريا ثالث أكبر منتج للغاز علي مستوي العالم، وتتخطي قطر. ومن هنا فإن روسيا لن تفرط في «الجائزة السورية»، والعودة إلي المياه الدافئة، وواشنطن تريد «سوريا جديدة» أقرب إليها، ومستعدة للإقدام علي خطوة السلام مع إسرائيل طبقا لوديعة إسحق رابين. أما إيران فإنها لن تسلم أوراقها السورية بسهولة. ومن هنا فإن مصر برؤيتها المتزنة والواقعية يمكنها أن تكون «جزءا من الحل» لا طرفا في تعقيد المشكلة، كما أن القاهرة وحدها ستكون القادرة علي لملمة الجروح وإعادة الجسور، واستعادة سوريا الموحدة إلي «الحضن العربي».
نقلا عن الاهرام القاهرية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع