بقلم - محمد صابرين
ثمة إحساس عارم بسوء الأحوال العربية، وبمدى وطأة الأزمات المتفجرة فى العالم العربى على مجمل الأوضاع الإقليمية والدولية. ومرة أخرى هناك همس صاخب بشأن «الرجل المريض» الذى يتصارع الكثيرون لصياغة مصيره، وأحسب أن المسألة ليست خافية على العواصم العربية، بل إن الأمين العام لجامعة الدول العربية السيد أحمد أبو الغيط حاول بحنكة السنوات الطويلة أن يدق جرس إنذار، وأن يوقظ «الغافلين» و«العابثين»، وأن يوقف البعض من الحمقى عن المضى قدما فى غيهم. وفى مقالة شاملة بعنوان «عشر ملاحظات على هامش الأزمات العربية» قدم الرجل بمنتهى المهنية شرحا وافيا للحالة العربية، وتزامن ذلك مع مقالة مهمة للكاتب الأمريكى الشهير فريد زكريا بعنوان موجع «هناك الكثير مما يدعو للتفاؤل هذه الأيام.. ولكن هناك الشرق الأوسط»، ويشير زكريا فى مقاله بصحيفة واشنطن بوست (15/2/2018) إلى حوار مع الباحث الأمريكى الشهير فى شئون الشرق الأوسط فالى نصر عميد كلية جون هوبكنز للدراسات الدولية المتقدمة، ويطرح نصر سؤالا خطيرا «أين البلدان العربية فى هذه اللعبة الجيوسياسية فى الشرق الأوسط»؟!. ربما يقول البعض ـ ونصر أحدهم ـ إن الأكثر إثارة للدهشة بشأن الصراع على السلطة فى المنطقة، والدائر بقوة هذه الأيام، هو غياب العرب.. إذن «أين العرب» سؤال مشروع ومراوغ سوف نحاول الاقتراب منه.
ـ . ـ وأحسب أن المرء عليه أن يتوقف قليلا أمام المسرح الكبير، أو بالأحرى الملعب الكبير الواسع، الذى يتم فوق أرضه، اللعب واللعبة الكبري. وهنا فإننى أسجل ملخصا لحوار طويل مع أحد الدبلوماسيين العرب صاحب الرؤية. ووفقا للرجل «إن واشنطن تنسحب من كل الأماكن وتتموضع فى آسيا.. (قارة القرن المقبل)، وبريكست ـ التى انتهت بخروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى هى أحد ترتيبات عملية انسحاب واشنطن، وهناك استراتيجية جديدة تجرى صياغتها لدور أكبر لحلف شمال الأطلنطى (الناتو)، وفى المقابل استمرار محاولات هدم الجيوش العربية، ودور أكبر لقوى إقليمية.. تركيا وإيران، ولا يشغل دوائر صنع القرار فى واشنطن سوى حماية أمن الممرات البحرية حماية لحركة التجارة، أما البترول فقد أصبح من الماضي، وذلك خاصة وقد باعوا السلاح بعقود لسنوات مقبلة».
ـ . ـ وعندما أقول له «وأين إسرائيل» فيقول لى بجملة موحية «إن أولاد العم لم يكونوا طوال تاريخهم فى وضع أفضل من الآن»، إذن علينا أن ندرك أن حماية الممرات ونشر القواعد الأمريكية هو من قبيل «الضغط بطول الملعب» ـ وذلك بلغة كرة القدم ـ، كما أن إعطاء دور أكبر لحلف شمال الأطلنطى يترجم مقولة جيمس ماتيس وزير الدفاع الأمريكى «الدبلوماسية من خلال القوة العسكرية»، وهو ما نراه حاليا «قوة خشنة جدا» و«إملاءات ترامب»، التى يأتى بعدها تيلرسون «بالكلام الناعم» لتنفيذ ما تريده المؤسسة العميقة فى واشنطن.
ـ . ـ والنقطة الثانية تتعلق بالكيفية التى أدرك فيها الآخرون أن ثمة انسحابا أمريكيا، وفرصة «فراغ استراتيجي» فى المنطقة، ولابد من أن تتقدم بعض القوى لملء الفراغ، وهنا يقول فالى نصر «إن ما يحدث الآن هو نتيجة الغزو الأمريكى للعراق فى 2003، والذى قلب موازين القوى بين الدول العربية وإيران عن طريق الإطاحة بصدام حسين والسماح بانتشار الفوضي». وأحسب أن الرجل يحاول تخفيف الخطيئة الأمريكية، لأنه من الثابت أن كوندوليزا رايس تحدثت عن «الفوضى الخلاقة»، وترامب المرشح للرئاسة تحدث عن «تغيير النظم بالقوة»، والمسئولية عن إيجاد داعش وأخواتها. المهم نعود إلى رؤية نصر الذى يقول فيها إن استراتيجية إيران كانت ناجحة فى سعيها وراء مصالحها الوطنية، وخلف النفوذ فى جوارها، ويقول «لقد انخرطت إيران فى أماكن لديها فيها حلفاء محليون أقوياء ـ العراق وسوريا واليمن ـ، وكانت مستعدة لوضع قوات وميليشيات، والأهم أنها تلعب اللعبة الطويلة، فى حين أن خصومها ليس لديهم هذه المزايا، كما أن التفوق الجوى له حدود، خاصة فيما يتعلق بصياغة الحقائق السياسية «على الأرض». والخلاصة من وجهة نظر فالى نصر «ربما نهج مختلف يتمثل فى التعامل مع إيران، والعمل مع تركيا وروسيا ـ قد يعود بالولايات المتحدة إلى مكانتها الفريدة فى المنطقة، والمساعدة على إيجاد توازن للقوة أكثر استقرارا، فيما تبقى أكثر المناطق الساخنة فى العالم».
مرة أخرى هذه ترجمة لما سبق أن أعلنه أوباما، وقاله بوضوح بشأن ضرورة تعلم السعوديين اقتسام النفوذ مع الإيرانيين. والآن نحن أمام مزيد من القوى الجديدة وهى إيران وتركيا، وطبعا روسيا وأوروبا وغيرها.
ـ . ـ وأحسب أن النقطة الثالثة فى المشهد تتعلق بروسيا، والغالبية منذ زمن بعيد تقول إن روسيا تكسب دوما ليس بفضل قوتها وإنما لذكائها الشديد وأخطاء وخطايا واشنطن.
ويكشف الباحث الإسرائيلى البارز رونان بيرجمان عن أن المنطقة كانت على حافة حرب شاملة ليلة سقوط الـ«إف ـ 16» الإسرائيلية، إلا أن اتصالات من بوتين لرئيس الوزراء الإسرائيلى نيتانياهو أوقفت العملية الإسرائيلية. ولفت بيرجمان إلى أن ما حدث «يظهر من هو السيد الحقيقى فى الشرق الأوسط، وهو روسيا وليس أمريكا». ومن المدهش أن مايكل أورن نائب رئيس الوزراء الإسرائيلى يرى «أن أمريكا ليست لاعبا رئيسيا فى الشرق الأوسط، وأن روسيا هى التى تمسك بأوراق الوضع فى المنطقة بين إسرائيل وسوريا وإيران». وأحسب أن الدب الروسى بات «اللاعب الاستثنائي» فى لعبة المصير نظرا لأنه «وضع أرصدة ضخمة» للمشاركة والتحكم فى اللعبة ونتائجها ومصائر بقية اللاعبين.
ـ . ـ ويبقى أن الأمين العام لجامعة الدول العربية أحمد أبو الغيط يقدم برقيات سريعة مفهومة بشدة: أولاها «الاعتقاد بأن غاية الممكن هى إدارة الأزمات وليس حلها، وأن المطلوب هو التكيف معها بدلا من اقتلاع جذورها ومجابهة مسبباتها .. هو «وضع خطير». والبرقية الثانية «أصبح الاستقطاب واضحا بين من يرفعون لواء الدولة الوطنية ومن يعادونها، ويوجهون الولاء لانتماءات تدخل كلها فى نطاق «تسييس الدين». والبرقية الثالثة «الأمن القومى العربى مازال يجرى التعامل معه بمنطق التجزئة» وهو ما لا يسمح بحشد «القوة العربية الإجمالية» فى التعامل الفعال مع «أى من هذه الملفات الخطيرة». والبرقية الرابعة «ينبغى إيجاد آلية لمناقشة صريحة بين الدول العربية لوضع أجندة متفق عليها لأولويات الأمن القومى العربي». والبرقية الخامسة «لا سبيل للتصدى للتدخلات الإقليمية إلا عبر مناقشة هذه التدخلات والتهديدات جميعا كملف واحد متكامل». والبرقية السادسة لأبو الغيط «هناك إشارات على توافر الإرادة لدى الكثير من النخب والقيادات والشعوب للخروج من المأزق الحضاري».
ـ . ـ . ـ
>> وأحسب أن «الخوف وحده» لا يكفى لإشاعة الاستقرار، أو التصدى للطامعين والمغامرين الذين جددوا تكالبهم هذه المرة لوراثة «الرجل المريض» فى الشرق الأوسط.
وفى البدء كانت الكلمة، ويقولون «الحروب ببدايتها كلام»، كما أن المستقبل مرهون «برؤى وإرادة واضحة» نرى أن الوقت لم يعد يتحمل نزقات الحمقي، ولا شطحات الصغار، وأن المطلوب باختصار «مجموعة ثمانى عربية» و«تفعيل نظام الأمن الإقليمى العربي، وخطة مارشال عربية بـ 500 مليار دولار، وبمشروع عربى ينتمى للعصر ويبشر بدولة مدنية ديمقراطية حديثة تتصدى لطيور الظلام وللقوى الإقليمية!.
نقلا عن الاهرام القاهرية