بقلم - محمد صابرين
الماضى لا يموت هنا، بل أحيانا ما يكون الحاضر والمستقبل ضحية »حسابات قديمة« لم تتم تسويتها، وكثيرا ما يتوهم البعض أن التاريخ فى الشرق الأوسط «معادلة رياضية»، إلا أن الوقائع تخبرنا أنه محكوم بقواعد «الرمال المتحركة» وهذه الرمال تهب فجأة لتبتع ما فى طريقها، بعد ما توهم السائر فى دروبها أنه اقترب من الماء، وأنه أحكم سيطرته على الأمور بعدما بنى قصورا على الرمال! وسرعان ما يدرك أصحابها ـ فما بالك بالغرباء ـ أنها «أضغاث أحلام» لشخص أضنته «الرغبة الحارقة» إلى الماء. وشىء من هذا كله يفسر المشهد الحالى فى الشرق الأوسط، وينطبق أكثر على دونالد ترامب سيد البيت الأبيض وفريقه فى تعامله مع المنطقة، وأغلب الظن أن يفقد ترامب ورجاله «الكثير من الرهانات»، بل والأصدقاء والحلفاء الذين باتوا فى موقف لا يحسدون عليه، فترامب ونائبه بنس والباقية الذين يحاولون فرض «تسوية مجحفة» على القضية الفلسطينية برعونة وجهل لا يدركون منطق الأشياء، ولا حركة التاريخ، ولا كيفية «إدارة الأمور» فى صحراء الشرق الأوسط.
وأحسب أن ريتشارد هاس الدبلوماسى الأمريكى الشهير كان محقا فى كتابه «عالم فى حيص بيص.. السياسة الخارجية الأمريكية وأزمة النظام القديم»، وذلك عندما قال «إننا نعيش فى عالم أقل وردية مما تخيله الرئيس الأمريكى جورج بوش الأب عندما أفصح عن رؤيته لنظام عالمى جديد».
فمثلما يقول هاس لقد أظهرت العملية ـ تحرير الكويت ـ وجود توازن قوى فى الشرق الأوسط تدعمه الولايات المتحدة، ويحظى بقبول أولئك الذين يفضلون بقوة نسخة من نظام عالمى، تحترم الأوضاع الراهنة، رافضين أي نسخة تتضمن أو تتطلب إجراء تغييرات واسعة على تلك الأوضاع». واليوم وبعد محاولات كثيرة من غزو أفغانستان وغزو العراق وثورات العالم العربى وحروبه فإن الواقع لم يتغير كثيرا، بل فى الواقع ازدادت الأمور سوءا واضطرابا، وأقصى الأمانى ومعظم المحاولات تقول بل تسعى إلى إعادة الأمور إلى أوضاعها القديمة» أى العودة إلى «توازن القوى» القديم. ولم يكن حظ بوش جيدا، كما أن سياسة «الإشارات المختلطة والملتبسة، والابهام المتعمد من قبل بيل كلينتون وباراك أوباما الرؤساء الديمقراطيين، لم تساعد فى التوصل إلى اتفاقيات مجددة، بل أن اتفاقيات أوسلو تترنح! واليوم يعتقد ترامب أن خليطا من «الابتزاز» والأغواء والصدمة الفجة لأطراف ضعيفة ـ وخاصة السلطة الفلسطينية ـ كفيلة بفرض تسوية أختار لها شعارا براقا «صفقة القرن» إلا أن التاريخ هنا ليس «معادلة رياضية»، والضعفاء لا يستسلمون بسهولة، والأقوياء فى بعض الأحيان يخسرون كل شىء فى لحظة وهم بالسيطرة على كل شىء ـ هذا ما حدث فى أفغانستان والعراق، ولإسرائيل بعد غزو لبنان، ومقتل بشير الجميل، وجيش جنوب لبنان، بل وانسحاب القوات الأمريكية من لبنان على عجل بعد مقتل جنودها أيام رونالد ريجان.
ومن المدهش أن التبريرات ذاتها والرؤى نفسها تتردد، وها هو مركز دراسات الأمن القومى الإسرائيلى، التايع لجامعة تل أبيب، يؤكد أن تعزيز العلاقات الإسرائيلية ـ الخليجية يؤدى دورا مهما للغاية فى استراتيجية الأمن القومى الأمريكى، ويزعم معدو التقرير أن ترامب كلف الدول العربية المعتدلة، بالعمل على جلب السلطة الفلسطينية لطاولة المفاوضات مع إسرائيل، وأن تضفى فى الوقت نفسه شرعية على التنازلات التى سوف يتوجب عليهم تقديمها لإسرائيل، والآن لم نشهد سوى تمسك هذه الدول بحل الدولتين، وبالدولة الفلسطينية وعاصمتها القدس الشرقية، ورفض أبومازن الرئيس الفلسطينى «للدور الأمريكى» جملة وتفصيلا، ومساندة أوروبية وعربية ودولية، وتزايد عزلة واشنطن بعدما أوشكت على »فقدان« الدور فى أى عملية سلام، وأغلب الظن أن «صفقة القرن» التى يصر البيت الأبيض على المضى قدما فى الإعلان عنها خلال الفترة القريبة المقبلة ستولد «ميتة»و ولن تجدى نصائح الجنرال الإسرائيلى شمعون عراد صاحب الدراسة بدعوته الدول المعتدلة بتوفير الغطاء المالى الذى يسمح باغواء الفلسطينيين للعودة للتفاوض وتقديم تنازلات. مرة أخرى منطق «الصفقات التجارية» الذى يفهمه جيدا ترامب والدوائر الصهيونية، ولكن رفض عرفات، ويستحيل أن يقبل به أبومازن أو غيره من القادة العرب، حتى وهو يدرك أنه قد يدفع حياته ثمنا للرفض!
ولا تبدو «صفقة القرن» حتى الآن ـ وفقا للتسريبات ـ سوى طبخة مسمومة، فهى مثلما يقول أحمد مجدلانى عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية تستهدف «تصفية القضية الفلسطينية» وإنشاء حلف اقليمى ضد النفوذ الإيرانى فى المنطقة تكون إسرائيل جزءا منه. إلا أن المهم هنا هو تأكيد مستشار الرئيس الفلسطينى نبيل شعث أن الأطراف العربية ليست مشاركة فى المخطط الأمريكى، وتتسرب رويدا رويدا بعض التفاصيل عن خطة ترامب، ومنها أنها دولتان من دون إخلاءات وجيش إسرائيلى فى غور الأردن، ومن غير المتوقع أن يطالب البيت الأبيض بإخلاء الإسرائيليين أو الفلسطينيين، وأن القدس ليست جزءا من خطة السلام، وحتى فى وقت لاحق سينظر فى الاعتراف بها عاصمة لإسرائيل. ويتردد أن واشنطن تعرض «أبوديس»، ومناطق العيزرية وسلوان. كعاصمة للدولة الفلسطينية. وبالطبع ذلك مرفوض لأن هذه المناطق ليست جزءا من القدس الشرقية. وبالإضافة إلى ذلك هناك محاولات لتصفية مشكلة اللاجئين.
ويبقى أن سؤالا واحدا فقط لم يكلف ترامب ولا رفاقه عناء الإجابة عنه: «لماذا يقبل الفلسطينيون بمثل هذه التسوية، ولماذا يخاطر الزعماء العرب «بشرعية نظمهم» وباستقرار بلادهم بتأييد مثل هذه «الطبخة المسمومة» لقد شاهدنا كيف قوضت هزيمة 48 أوضاع المنطقة العربية، وأزاحت أنظمة عدة وإلى الأبد، وأغلب الظن أن العرب لن يقبلوا تسوية بأى ثمن، كما أن الاعتقاد والوهم بأن «التصدى للنفوذ الإيرانى» يعنى القبول بتصفية القضية الفلسطينية، والتحالف مع إسرائيل هو ضرب من الجنون« والجهل المطبق من قبل الإدارة الأمريكية الحالية، ومثلما تقول تمارا لوفمان ويتس، التى كانت مسئولة بوزارة الخارجية فى عهد أوباما، أن القادة الإسرائيليين والفلسطينيين «مقيدون بشدة» ليس فقط من قبل الائتلافات الحاكمة ولكن من قبل الجمهور. وأضافت »يصعب هذا حتى على القادة السياسيين تقديم تنازلات كبيرة فى هذه الظروف»، وبالطبع فى ظل أجواء منطقة تغلى بالكثير من المشكلات، ويواجه قادة كثر مشكلات مثل مشكلة نيتانياهو مع اتهامات الفساد، ومع غليان الشوارع العربية، والحروب المشتعلة لا أعتقد بأن هناك ما يغرى للقبول بطبخة كفيلة بتفجير الأوضاع أكثر، وببدء موجات إرهابية أخرى ـ وأغلب الظن أن الغالبية فى المنطقة ستلجأ إلى الحكمة التقليدية «الزمن كفيل بحل المشكلات، هذا هو ما تعودناه ما لم يكن للحمقى رأى آخر؟!
نقلًا عن الاهرام
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع