بقلم - سمير عطا الله
نشر فيودور دوستويفسكي إعلاناً مبوباً في الصحف يطلب فيه سكرتيرةً تجيد الكتابة بالاختزال. لم يشرح طبعاً الأسباب. فقد كان على وشك أن يبدأ طريقةً جديدة في الكتابة هي الإملاء الذي تبيّن بعد فترة أنها شديدة الصعوبة. إحدى المتقدمات للعمل كانت صبية من عائلة ميسورة تدعى آنا غريغوريفنا، صبيةٌ تصغره بخمسةٍ وعشرين عاماً. اكتشفت آنا أن الرجل السيئ الصحة في حالة هلعٍ شديد لأن عليه أن يسلّم إلى الناشرين روايةً على الأقل خلال أسابيع قليلة، وإلا وضع الدائنون أيديهم على أعماله.
بعد فترةٍ غير قصيرة وجد دوستويفسكي نفسه منسجماً مع آنا غريغوريفنا في الإملاء. وتروي في مذكراتها (دار المدى) أنه كان يعملُ نصف ساعةٍ ويرتاح نصف ساعةٍ أخرى. وذات يوم، فاتح الروائي الكهل الفتاة الميسورة برغبته في الزواج للمرة الثانية بعد وفاة زوجته الأولى بسنوات. هذا كل ما كانت تنتظره. وفوجئت بأن أمها لم تعترض عندما أبلغتها بذلك. ودخلت آنا حياةً من الشقاء والعذاب والحب دامت 12 عاماً مع رجلٍ عبقري مريضٍ بذلّ القمار، إلى جانب علاته الصحية الأخرى. إضافة إلى هذه العلل، كان مريضاً بالغيرة القاتلة بسبب اهتمام الناس بجمال زوجته الحسناء. ومن أجل أن تخفف عليه تلك المشاعر، صارت ترتدي ثياباً عتيقة، فشعر بالارتياح إلى حين. بل إن غريغوريفنا، الهائمة بحب العبقري العجوز، أخذت تبيع ثيابها الغالية التي جاءت بها من بيت أهلها، من أجل تسديد ديون القمار التي وقع تحتها في ألمانيا وغيرها. وازدادت المصائب على الزوجين عندما فقدا ابنهما الصغير الذي غيّرت ولادته وحدها حياة الكاتب الحزين، وجعلته يشعر بشيءٍ من السعادة. ثم فقدا ابنتهما أيضاً. وذهب دوستويفسكي إلى منعزلٍ بعيد يمضي فيه فترة التحمّل والتجلّد، فإذا به يكتشف أن معظم أدباء روسيا الكبار مروا من هناك، كلٌّ لأسبابه.
تأثّرت الزوجة الهائمة بأعمال الروائي الكبير حتى أصبحت كبرى المعجبات به. أو لعلّها أصبحت كبرى «مرضاه»، إذ تروي أنه فيما كان يملي عليها فصلاً من رواية «المراهق»، عجزت عن الكتابة لشدة تأثرها، فسألها: «ماذا بكِ يا عزيزتي؟ أنت شاحبة جداً فهل تشعرين بألمٍ ما»؟ أجابت: «لا. وإنما وصفك قد دبّ بي الرعب». وكانت بالنسبة إليه أفضل أو أصدق النقاد، يطمئن إلى رأيها سلباً أو إيجاباً، عندما تكثر عليه المدائح والهجمات في الصحف. وكان يقرأ التأثر عليها قبل النشر ويقول لها أنت قارئتي الأولى: «وفي بعض الأحيان كنت أكتب بيد وأكفكف دموعي بأخرى، فيتوقف دوستويفسكي عن الإملاء، ويقترب مني صامتاً، ويقبِّل رأسي بحنان». وأدركت غريغوريفنا أنه يستعير من حياته وحياة سواه الكثير من المادة لرواياته وأشخاصه. وفيما يملي عليها تحفته الكبرى «الأخوة كارامازوف»، كان في استطاعتها أن تميّز الأشخاص واحداً واحداً، وخصوصاً عندما يغرق في وصف نفسه، كمقامرٍ ذليلٍ وسيئ الحظ.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع