بقلم - سمير عطا الله
وصل يونس بحري إلى بغداد في 13 يوليو (تموز) 1958 للعمل في إذاعة العراق بعد شهرة طويلة في إذاعة برلين حملت صوته إلى العالم العربي يومياً وهو يهتف: «هنا برلين، حي العرب». وفي اليوم التالي لوصوله، وقعت مجزرة «قصر الرحاب» بقيادة عبد الكريم قاسم وعبد السلام عارف، فاعتقل يونس بحري في سجن أبو غريب السيئ الصيت.
يروي في مذكراته (الدار العربية للموسوعات) كيف بدأ السجن يزدحم يوماً تلو يوم برجال «العهد البائد» الذين كانوا إلى الأمس حكام البلاد. وبعد يومين من دخوله السجن طلب من الضابط السماح له بتناول «ساندويتش»، فرفس هذا رزمة من الساندويتشات بجزمته قائلاً «اخرس يا خائن. يا ذَنَب العهد البائد».
يقول بحري «كنا ونحن في السجن أكثر اطمئناناً من أي فرد في الخارج. فقد تساوى في الهلع والفزع المدنيون والعسكريون، وزالت الثقة تماماً بين العسكريين والمدنيين واندثرت معالمها، وحل محلها التنكر والحقد والكراهية». وصار حاكم السجن العريف رسن. لكن بعد 7 أيام رُقّي رسن إلى رئيس عرفاء ونادى بحري على المعتقلين لتقديم واجب التهنئة إلى رسن. وكلف بحري من قبل الرفاق أن يسأل رئيس العرفاء ماذا يريد كهدية، فأجاب رسن ضاحكاً «بابا جيم فلس وخلصونا». وبعد التهنئة انتحى البحري بعريفه جانباً وروى له قصة العريف باتيستا الذي أشعل نيران الثورة في كوبا، وحكمها عشرة أعوام. وطرب رسن للفكرة، وهمس في أذن بحري: إذا كان باتيستا عريفاً وفعل ما فعل، فكيف بي وأنا رئيس عرفاء؟ يكتب يونس بحري: «قلت له، يا ريِّس، إنك تتمتع بجميع الصفات التي تؤهلك للحكم. فالذي يستطيع أن يحكم هذا العدد الضخم من رؤساء الوزارات، والوزراء والأعيان والنواب والصحافيين، ويرضيهم ويونسهم، ألا يستطيع أن يحكم هذا الشعب الذي كان هؤلاء يحكمونه منذ 38 عاماً؟».
انتشرت قصة العريف باتيستا في سجن أبو غريب، ثم انتقلت إلى معسكرات الجيش ووزارة الدفاع، «وراح كل عريف يعتني بهندامه ويمعن في تلميع أزراره النحاسية وحذائه».
وأخذ الجنود والعرفاء يقبلون للتفرج على صاحب الفكرة من وراء الأسلاك. لكن بعد ظهر ذلك اليوم نادى آمر السجن على البحري وأمره بمرافقته إلى مكتب العقيد عبد السلام عارف وزير الداخلية. وعندما رآه الماثل أمامه قال له: سيادتك لم يجلس أحد خلف هذا المكتب إلا وكان شؤماً عليه. وعدّد له الأسماء من رشيد عالي الكيلاني إلى سعيد قزاز. فامتقع لونه وشاهدت شفته العليا ترتجف، وراح يتطلع إلى الطاولة تطلّع الرجل الذي صدقت أذناه ما سمع. وهكذا ربحت الجولة الأولى مع الرجل الذي غيّر كرسيه فوراً، وأشار إلى كرسي آخر وقال بصوت مرتجف: «اجلس».
إلى اللقاء...
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع