بقلم - سمير عطا الله
في ساحة «يونيون سكوير»، نيويورك، جريدة ضوئية عملاقة، تنقل إلى المشاهد كل ثانية، عدد المواليد الجدد في العالم. يتزايد الرقم في سرعة إلكترونية جنونية، بحيث يصبح من العبث متابعته. وبعد برهة لا يعود له أي معنى. إنه مجرد رقم يصعب اللحاق به. أو فهم معناه. فهذه الأرواح الجديدة القادمة إلى زحمة الحياة والموت في القارات، شريط سريع لا يمكن معرفة معانيه أيضاً، كنت أقرأ الرقم وأنا داخل إلى مكتبة «بارنز أند نوبل». ثم أقرأه مرة أخرى عند خروجي منها. الفارق الوحيد في العدد.
أسوأ ما يحدث للبشرية تحوّل الإنسان من نفس إلى عدد. من فرد يحيا، إلى جماعات تفنى. من حزن حميم خاص، إلى حزن عام، حقيقي، لكنه بلا اسم، أو روح، أو سرادق عزاء. منذ اللحظة الأولى لفتح باب الجحيم في غزة، صرت أتذكر كل يوم، العداد البشري العبثي في نيويورك: ارتفاع عدد الضحايا إلى 3 آلاف. ثم إلى 6 آلاف. ثم إلى 20 ألفاً. المفقودون ضعف ذلك. المشردون 150 ألفاً. ونتنياهو يعقد اجتماع حكومة الحرب. أي أن العداد سوف يتضاعف في اليوم التالي.
وفي النهاية ماذا؟ في النهاية، سوف تعطى مجموع الأرقام. وسوف تشير إليها في الخطب العصماء، والمقالات الحادة، والتصريحات الفارغة، التي لم تعد قابلة حتى للاجترار.
منذ حرب الأردن، ثم لبنان، ثم الجزائر، ثم العراق وسوريا، أي الحروب الأهلية وحدها، سقط مئات الآلاف من «الضحايا». لكن العدد كان مزوراً والأرقام مدبّرة مثل أرقام الاستفتاءات والانتخابات، على أنواعها. يتخذ العبث أشكالاً ومعاني مريعة عندما يكون الرقم مرفقاً بالصورة وشرحها: مدينة تساق إلى الرماد كل يوم، ونحن نعتز بمظاهرات لندن ولافتات باريس.
ثمة شعب بأكمله اصبح رقماً يعدل كل يوم. مثل معذبي غزة، مثل العداد الضوئي في «يونيون سكوير». وقد ألغاه أصحابه، في أي حال، ووضعوا مكانه خريطة لارتفاع التلوث.
وكلاهما من عمل الرجل. مرة يزيد عدد الملوثين ومرة نسبة التلوث. وفي كل الحالات يرتفع عدد الضحايا. أرسل الدكتور وليد الخالدي من عالمه في «هارفارد» إلى أصدقائه لائحة بالخسائر والمصائب التي لحقت بغزة. بعد يومين من وصولها إليهم، كانت كل أرقامها قد تغيرت وتضاعفت. وخصوصاً شيئاً واحداً: فجور زمرة «نتنياهو» في القتل والخراب.