بقلم - سمير عطا الله
أخذ على كثير من مفكري مصر أنهم لم يهتموا إلا بشؤونها وقضاياها. واتهم هؤلاء «بالعصبية» و«المحلية». وغاب عن موجهي الاتهام أن حجم القضايا في مصر لا يترك مجالاً لسواها: حياتها ونموها ودورها وسياساتها ويومياتها.
مصر تشغف المصريين وتشغلهم. وأكثر من ذلك أنها تشغل الآخرين أيضاً. فالموضوع المصري موضوع عربي عام في معظم المراحل. والكاتب في الشؤون المصرية له من القراء ما ليس للكاتب في الشؤون العراقية أو السورية أو المغربية. وقد شغل كتّاب مصر في القرن الماضي الأمة برمّتها. في اليمين وفي اليسار وفي الوسط. في النهضة وفي التشدد وفي التزمت. وتحول بعضهم إلى أصحاب تيارات ومدارس. وكان أحد كبار المعلمين التاريخيين أحمد أمين، صاحب «ضحى الإسلام» والمفكر الذي ترك من المؤلفات ما يشكّل مكتبة كاملة.
مع ذلك أعرب عن ندمه على تبوء المناصب لأنها شغلته عن التكرس.
رغم انصراف جلال أمين إلى الكتابة دوماً في الشؤون المحلية، فلا أذكر أنه كتب شيئا لم أقرأه. ولم يغب عن بالي يوماً في اللاوعي أن هذا الرجل ولد ونشأ في بيت أحمد أمين. فقد كان واضحاً في فكره وفي أعماله هذا الامتداد الحضاري. وكان أكثر وضوحاً فيه تلك الاستقلالية الفكرية التي لا تعرف سوى التزام واحد هو مصر. ومن خلال هذا الالتزام كان كثير الجدل والنقاش والنقد. ونادراً ما امتدح خوف تشجيع الخمول. ولم تكن هناك قضية لا تعنيه إذا كان لها بعد مصري: من الاقتصاد، إلى سيرة تحية كاريوكا، التي رأى فيها نموذجاً وطنياً اجتماعياً بعيداً عن المسرح وثياب الرقص.
وإضافة إلى غزارة المواضيع كان غزير الإنتاج. ولم تكن تعرف ماذا سيكون موضوع مقاله غداً. فقد أوكل إلى نفسه مهمة أن يكون الرقيب الاجتماعي على يوميات البلد وأهله. الشطط غير مسموح، أو مقبول. وبصفته عالما اقتصاديا، كان يرفض التسليم السهل بالإعلام الموجّه. وشكك لمدة طويلة في أصول «القاعدة» و«داعش». وكان يتساءل كيف يمكن لتسجيلات بن لادن الوصول إلى التلفزيونات لبثِّها، من دون أن يعترضها أي جهاز مخابرات عالمي في أي مكان، خصوصاً بيان إعلان المسؤولية عن مجزرة برجي نيويورك.
كان الشك، أو النقد، عنده يسبق الوصول إلى أي نتيجة، حتى الإيجابي منها. وتفقد مصر في فقدانه ظاهرة من ظواهر الفكر الجدلي، وأميناً من أمناء النهضة، التي كان والده أحد أعلامها.
نقلا عن الشرق الاوسط اللندنية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع