بقلم: سمير عطا الله
تدور رواية اللبنانية مي منسى تحت شجرة رمان، مزروعة أمام بيت بيروتي متواضع. تحت تلك الشجرة تضع أمها ماكينة الخياطة التي تعمل عليها طوال النهار لمساعدة الأب في تدبّر رزق العائلة. والأب قاس. وفي المنزل أخ عبقري يكتب الشعر، لكنه يصاب بالجنون فينقل إلى المصح. وتتوالى الأحزان على شجرة الرمان حتى تجف عروقها وتيبس.
في عُمان، وفي رواية جوخة الحارثي، الشجرة «نارنجة». والجدة «بنت عامر» ليست أماً لأحد. جاءت إلى المنزل فقيرة تبنتها العائلة، وبقيت فيه، بلا زواج، بلا أبناء من صلبها، لا تترك الدار، لا تتأخر لحظة عن العمل. تعيش ببصر شحيح في عين واحدة، لكنها تملأ الدنيا من حولها حباً.
المنزل الذي تتحدث عنه مي منسى، عرفته تماماً. كان مجاوراً لمنزل أبي. وشجرة الرمان أذكرها تماماً، لكنني لم أعرف شيئاً عنها قبل صدور رواية مي «أوراق من شجرة رمان». وها أنا أقرأ «نارنجة» التي يفترض أنها رواية. لكنها ليست رواية. إنها أنشودة شعرية من أناشيد الأحزان. سماء من الكآبة وأرض من الأحزان وقلم جوخة الحارثي يغرف من المشاهدات، ولا يكف عن التنقل ولا عن استنطاق الأعماق.
حزن التاريخ مثل مرارته، لا يطاق. لذلك، أرمي الرواية جانباً ثم أعود فأقرأ. ثم أشعر أن حزنها لا يطاق، فما الذي يرغمني على التحمل؟ لكن جوخة تخلط التاريخ بالتمر المجفف والنوى بمسحوق الجوز، وتضرب على أوتارك سحراً خفياً لا فكاك من خدره.
وأنى هربت أو تهربت، سوف تمتثل «جدتي بنت عامر» أمامك، وقد خلعت قبقابها الخشبي على المدخل لكي لا تسيء إلى السجاد. وحتى عندما تسافر «البطلة» إلى لندن للدراسة، يلاحقها ظل بنت عامر، التي مرت في الوجود من دون أن يقترب منها. ولم يكن في الأرض حزن أكبر من الحزن الذي عصف بالبيت يوم ماتت أم عامر في حنوها وهدوئها. وجفّت النارنجة من تلقائها. وأخفقت ركابها، وتنفض عن نفسها خدر الراحة وتستعد لرحلة العودة في الجبال والأودية.
كيفما تطلعت حولي الآن، لا أرى ريحانة واحدة. العدس يأتي معلباً من فرنسا، والبقول الأخرى تأتي من بلاد بعلبك معلبة كذلك. تعرفت في غداء احتفالي على رجل ينادى «العميد»، فسألت إن كان عميداً في الجيش أو في الجامعة، فقيل إنه عميد أصحاب شركات الأغذية المعلبة. فسألني: وحضرتك؟ قلت أنا ريّس الريحان في سالف العصر والأوان.