بقلم : سمير عطا الله
لو لم يمت فرانكلين ديلانو روزفلت في منتصف ولايته الرابعة لمضى الأميركيون يجدّدون له إلى ما شاء الله. فهو لم يكن الرئيس الذي حسم الحرب، وإنما كان الرجل الذي أنهى موجة الكساد القاتل ووعد كل أميركي بأن تكون له دجاجة في مطبخه. فيما كان سعد زغلول يقود ثورة مصر من أجل الحرية، كان طلعت حرب يقود ثورتها من أجل الاستقلال المادي مدركاً أنه لا حرية للشعوب مع الفقر. وبدل أن يدعو إلى التأميم راح ينشئ الشركات والبنوك والمزارع والفبارك بأيدٍ مصرية، ورأسمال مصري، وأشهرها طبعاً بنك مصر الذي التف حوله المصريون أغنياء وفقراء.
لم يترك صاحب هذه الشخصية الحيوية وصاحب الرؤية الاقتصادية البعيدة، حقلاً من الحقول إلا وحاول تمصيره. مثل السياحة، مثل الأقطان، مثل الغزل والنسيج، مثل التمثيل والسينما. وقال فيه المستشرق الفرنسي الكبير جاك بيرك إن ميزته الأولى كانت في إدراكه للقوة الكامنة والإمكانات الهائلة التي لم تستغل بعد عند الشعب المصري، ورأى حرب أن الخلاص يبدأ بنقل الناس من المجتمع الزراعي إلى المجتمع الصناعي. وقبل غيره بعقود طويلة أخذ يموّل المشاريع الصغيرة بمنح القروض الميسرة للفلاحين والمزارعين واستطاع في نهضته الاقتصادية أن يؤمّن الأعمال والوظائف للآلاف من مواطنيه. وزيادة في الشعور بالاعتزاز الوطني جعل جميع مباني بنك مصر التي زادت على الـ37 وحدة مصرفية العام 1938 – جعلها ذات مظهر معماري فائق الجمال تماشياً مع حضارة مصر المعمارية القديمة. ومن خلال سياسة التمويل أسعف التجار الصغار على الوقوف في وجه المنافسة الأجنبية، وأوقف عمليات الاستيلاء على الأراضي المرهونة كما كان يفعل الإنجليز، ثم أنشأ بنكاً عقارياً يحمي المزارعين.
وفي كل استثماراته رفض أن يموّل أي مشروع يشتم منه الإساءة إلى الأخلاق العامة. وكان هذا الرائد المتعدد الرؤية أول من أنشأ مطبعة مصرية برأسمال قدره 5000 جنيه في سبيل دعم النتاج الفكري المصري وتحريره من السلطة الأجنبية المباشرة وغير المباشرة. وأسس أول شركة حافلات لنقل الركاب ثم شركة للنقل النهري، وأوفد إلى الخارج بعثات من العمال والخبراء لدراسة تطوير جميع أنواع التجارات التي أسسها من صناعات الأدوية إلى الألبان إلى الكيماويات إلى الفنادق، إلى أن أصبح أول من يؤسس شركة طيران في العالم العربي العام 1934 وكانت الرحلة الأولى بين القاهرة والقدس. يحمل ميدان بقلب القاهرة اسم سعد زغلول الاقتصاد. لكن كل ميدان في مصر فيه شيء من آثار ذلك المؤسس العظيم. ولا شبه له في جميع تجارب العلم العربي. فمن السهل أن تعثر على سياسي آخر ولا توأم للرجل الذي بنى أهراماً من دون حجارة.
نقلًا عن الشرق الآوسط اللندتية
المقال يعبّر عن رأي الكاتب وليس بالضرورة رأي الموقع